بعد 76 سنة من قيام دولة الاحتلال نجدها اليوم عالقة في جرف صخري بين منطقين متضادين، وهو أمر يعكس بوضوح أزمتها الوجودية العائدة إلى حقيقة أنها صناعة لا تحمل في جوهرها هوية ولا على أي مستوى من المستويات، وأن "الخليط الديموغرافي" المتناقض الذي يشكل سكان دولة الاحتلال لا تنقصه الهوية المشتركة فحسب بل تنقصه وهذا الأهم هوية الشعور بالانتماء إلى "أرض الميعاد" التي لا يعرف عنها إلا أنها مكان بديل له لتحسين مستوى عيشه (حسب الاحصائيات الإسرائيلية الرسمية فإن قرابة مليون إسرائيلي غادروا بلا عودة منذ السابع من أكتوبر 2023) وهذا الأمر يعد من أخطر العوامل التي تهدد بقاء هذا الكيان وفقا لعقيدة بن غوريون القائلة (... إن انتصار إسرائيل النهائي سيتحقق عن طريق الهجرة اليهودية الكثيفة، وإن بقاءها يتوقف فقط على توفر عامل واحد؛ هو الهجرة الواسعة إلى إسرائيل)، واليوم وبعد 76 سنة نجد أن هذا العامل يتآكل بشكل كبير وأصبح واضحاً أنه مرشح للمزيد في المستقبل القريب في حال بقاء الصراع مع الفلسطينيين مندلعاً بهذه الوتيرة الدموية .
ونظراً لما أشرت إليه فإن شكل الانتماء والوطنية في هذا الكيان تأخذ أشكالاً وأبعاداً متعددة أقل ما يقال عنها أنها أشكال وأبعاد صراعية تساهم في "تقليل عمر" هذا الكيان وتستنزف قدراته على الصعد كافة، فلو نظرنا الآن إلى ما يجرى داخل دولة الاحتلال سنجد أن الدولة والمجتمع منقسمان إلى أقسام عدة وأن الشارع فيها هو "شوارع" فهناك الانقسام الأساسي بين الديني والعلماني والانقسام بين السفارديم والاشكنازيم، وبعد طوفان الأقصى استجدت تناقضات فرعية جديدة ولكنها شديدة الأثر مثل معسكر أهالي الأسرى ومطالبهم بوقف الحرب، وفي المقابل شارع أهالي الجرحى والقتلى الذي يطالبون بمواصلتها وبأقسى ما يمكن من القتل والتدمير، وهناك شارع الحريديم الرافض بشدة للخدمة في الجيش في مقابل المعسكر العلماني الذي يطالب بعكس ذلك، وهناك الاختلاف الأكبر بين معسكر اليمين بكل تلاوينه من علمانيين ومتدينين، وهناك اليمين من المستوطنين الذي يؤمنون بأرض "يهودا والسامرة" وهناك المتطرفون من غير المتدينين وأجندتهم الأساسية العيش برفاهية في مجتمع عصري، وهناك مجتمع الأقلية اليهودية اليسارية الذي بات يشعر بأن "الدولة" مختطفة وهناك عرب الـ 48 الذين يشعرون بالغربة رغم أنهم أصحاب الأرض.
هذه الخلطة أقل ما يقال عنها أنها "خلطة السم القاتلة للحالة الوجودية المصطنعة" لهذا الكيان ولو تمعنا أكثر سنجد أن الصراع داخل النخب السياسية والعسكرية بات يتعمق أكثر فأكثر، وعلى سبيل المثال سنجد أن شخصية ذات مصداقية عالية مثل "اللواء اسحاق بريك 75 عاماً" الملقب "بنبي الغضب" والذي تنبأ بطوفان الأقصى والذي مازال يصر على أن "إسرائيل" لن تهزم حماس بهذه الاستراتيجية العسكرية المتبعة منذ ثمانية شهور أصبح يشكل عقدة لنتنياهو وليوآف غالانت وأيضاً لهرتسي هليفي لأن ما يكتبه في "هآرتس" ويصرح به لقنوات التلفزة يعرى نظرية الاستمرار في الحرب التى يؤيدها هذا الثالوث ويُكذبٌ "شعار الهزيمة المطلقة لحماس" الذي يرفعه نتنياهو كما يدحض فرضية أن الحرب قادرة على "تحرير الأسرى" ويتفق معه إلى حد كبير كل من "ايهود باراك"، وموشي يعلون "ودان حالوتس" و"افيف كوخافي" ورئيس الوزراء الأسبق "ايهود اولمرت" وحتى بيني غانتس وغادي ايزنكوت عضوا مجلس الحرب، وفي حكومة الاحتلال نفسها نجد التناقض في أقصى درجاته بين العلمانية الصهيونية الموجودة في "كابينت" الحرب والتى تدفع باتجاه صفقة للإفراج عن الرهائن "عدا نتنياهو" وبين الصهيونية الدينية المتمثلة ببن غفير وسموتيرش اللذان يريدان احتلال غزة بالكامل .
التناقض بين التطرف السياسي القادم من خلفية غير متدينة داخل الحكومة أو داخل النخب السياسية بصورة عامة وبين النخبة السياسية ذات العقيدة الدينية الحريدية هي المقبرة الواسعة التي ستبتلع هذا الكيان فبن غفير وسموتيرش لا ينظران للعالم إلا من ثقب باب التلمود وعقده وخزعبلاته وآخرها مثلاً كان تعليق بن غفير على قرار محكمة العدل الدولية الداعي لوقف الحرب بقوله (مستقبلنا ليس منوطاً بما يقوله الأغيار بل بما نفعله نحن اليهود)، والأغيار مصطلح عنصري لا أخلاقي يُقصد فيه كل من هو غير يهودي ويُنظر له على أنه خادم لليهود حتى لو كان هذا "الغير" بايدن أو ترامب .