مفاجآت غيّرت المسارات والمعادلات

ما لم تتوقعه إسرائيل وما لم تحسب حسابه هي المفاجآت التي أنتجتها حربها الانتقامية على غزة، والتي أفرزت حروباً محدودة في أكثر من مكان هذا دون استثناء الضفة المشتعلة.

أول المفاجآت.. طول أمد الحرب، التي لا تتوقف عند حد زمني ولو تقريبي فهي مفتوحة على الزمن، وإن توقف القتال بفعل اتفاقات وهدن، فإن الحرب لن تتوقف ما دام الفلسطينيون مستنفرين لقضيتهم ومستعدين لتقديم أغلى التضحيات لبلوغ حقوقهم، وهذا لا يدل عليه فقط ما يحدث في غزة بل وفي الضفة كذلك.

ثاني المفاجآت.. غزارة الخسائر البشرية والاقتصادية والنفسية، ذلك أن إسرائيل التي تعودت على حروب تقوم بها لتحتفل بعد أيام معدودات بحسمها، وقعت من خلال الحرب الراهنة في حفرة عميقة لا مخرج منها. فالجنازات تتوالى يومياً والنزف المالي يتدفق بغزارة لم تحدث من قبل، وعجلة الإنتاج تتعطل بلا آفاق عملية لإعادة تنشيطها، والقلق على الحاضر والمستقبل يتفاقم ويتسع، والصراع الداخلي حول الاتجاهات والخيارات تجاوز المألوف المسيطر عليه، فهو صراع من القاعدة إلى القمة، وهذا إن جرى التعايش معه بتأثير الحرب إلا أن تفاعلاته المستقبلية ستكون كارثية والمقدمات بدأت.

المفاجأة الثالثة.. انقلاب الوضع الدولي، الذي كان فيما مضى يوظف في مصلحة إسرائيل بما يعمل ولا يعمل، تحول في هذه الحرب إلى ما لم تعرفه إسرائيل من قبل... دول تتمرد على الحظر الصارم في أمر الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ومحكمة العدل الدولية تدين وتأمر وتواصل وضع الدولة العبرية في قفص الاتهام، وكذلك محكمة الجنايات، أمّا مفاجأة المفاجآت في هذا الشأن فهي عجز الإدارة الأمريكية عن توفير شبكة أمان دولية تستند إليها إسرائيل في حروبها، لتبقى الدولة العبرية معلقة على الفيتو، الذي صار يضر أكثر مما ينفع.

وهذه المفاجآت وأكثر منها مما لا يتسع المجال لتعدادها جعلت الدولة التي كانت تتحكم بالمسارات وحتى المصائر في المنطقة، باعتمادها على قوتها العسكرية والاقتصادية والتحالفية، تدخل وتتوغل في دوامة قاتلة، تنطوي على مفارقة لم يتوقعها صناع القرار فيها، إنها وهي تحارب الأشباح في غزة تخسر على الأرض ولا تكسب في السياسة، ذلك يبدو جلياً في وقائع الحرب، فما أن تعلن انتهاءها من جبهة في منطقة ما داخل غزة، وتذهب إلى جبهة أخرى معلنة أنها ستكون الأخيرة حتى تجد نفسها، في وضع تبدو فيه وكأنها تبدأ الحرب من جديد وهذا ما جعل من شعار النصر المطلق أمراً يثير السخرية.

أمّا على صعيد السياسة، فكلما سجل عداد الحرب يوماً جديداً يسجل عداد السياسة خسارات فادحة، حتى أقرب حلفائها وداعميها، ليسوا معها في أجنداتها المستحيلة بشأن غزة والضفة والقضية الفلسطينية والمنطقة.... مثلاً.. لا أحد معها في البقاء العسكري على أرض غزة، ولا أحد معها في حلمها الدائم بتهجير أهلها إلى سيناء، ولا أحد معها في مخططاتها الخيالية، التي تطرحها لتكرس تحكمها في غزة، بحيث تريد وتعلن بأن العالم كله ينبغي أن يعمل موظفاً عندها لتوفير راحتها وديمومة تحكمها بحياة الناس ومصيرهم.

ولا أحد معها حين تعتبر دمار غزة واستيطان الضفة الفصل الأخير في حرب إبادة القضية الفلسطينية وإلغاء حقوق شعبها.

لا أحد معها في كل ما تقدم، غير أننا بالمقابل ندرك كم دفعنا كفلسطينيين ولبنانيين من خسائر مؤلمة، ولكن رغم ذلك فإن النتائج النهائية لن تكون حتماً في مصلحة إسرائيل، ودعونا نستحضر ما قاله أوستن في اليوم الأول للحرب على غزة وهو أدق وأبلغ ما قيل وما يمكن أن يقال.. "قد تكسب إسرائيل تكتيكياً إلا أنها ستخسر استراتيجياً".

لم يقل هذا فلسطيني متحمس أو معهد دراسات وأبحاث، بل قالها وزير دفاع ولي نعمة إسرائيل في حروبها ومصيرها والمزود الوحيد لسلاحها وذخائرها والمسدد لفواتيرها التي لا سقف لملياراتها.

Loading...