منظمة التحرير الفلسطينية هي عنوان الكفاح من أجل التحرر الوطني قبل أن تكون الممثل الشرعي والوحيد

في وقت تتصاعد به جرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية والتهجير في حالة لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلاً. فقد حلت علينا قبل أيام معدودة وتحديداً في 28 أيار الذكرى الستين لتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية التي انطلقت بعد انعقاد المجلس الوطني الأول عام 1964 في مدينة القدس العاصمة الأبدية لما تحمله لنا هذه المدينة من معاني التاريخ منذ الكنعانيين الأوائل حتى يومنا هذا نحن الشعب الأصلاني صاحب هذه الأرض.

لقد تأسست منظمة التحرير بجهود المؤسسين الأوائل الذين انطلقوا كامتداد لحركتنا الوطنية منذ زمن الانتداب، ليحملوا شعبنا من رماد النكبة إلى نور الثورة المعاصرة لتكون بعدها منظمة التحرير هي عنوان جامع للحركة الوطنية الفلسطينية وفق ميثاقها الوطني وبرامجها السياسية اللاحقة بدورات المجالس الوطنية ووثيقة إعلان الاستقلال، من أجل تحرير فلسطين ومن أجل الخروج من عباءة الأنظمة العربية آنذاك التي كانت تحاول امتلاك القرار الفلسطيني ومصادرته والادعاء بتمثيل مصالحه منذ ثورة البُراق. فأصبحت هي الممثل الشرعي وصاحبة الولاية القانونية والسياسية عن فلسطين وقضيتها أمام العالم بحكم القرارات العربية والأممية وظهور رؤسائها بالأمم المتحدة.

إن الذكرى الستين لتأسيس م.ت.ف ليست مجرد مناسبة للاحتفال، بل هي دعوة للتأمل في مسيرة المنظمة ومراجعة سياساتها وبرامجها بمنهج نقدي من التفكير لنفض ما لصق بها من غبار أو من محاولات تهميشها، أو من حيث تفريغ دورها القيادي ومسؤولياتها الوطنية المفترضة خاصة في قطاع غزة اليوم. كما ويحب مراجعة آليات الانتخاب لمؤسساتها التي يتوجب دعوتها للانعقاد الدوري، وضرورة تحقيق شمولية التمثيل فيها ليس الفصائلي فحسب على أهميته، وإنما لكل مكونات المجتمع المدني والأهلي وخاصة فئة الشباب منه، فتكون هي العنوان والحاضنة، ومن أدواتها تكون السلطة الوطنية أو غيرها حتى تحقيق استقلال الدولة في إطار دورها المرجعي لكافة القضايا الوطنية .

إن تأجيل الوصول إلى حلول لعدد من التحديات الماثلة أمامنا، والتعاطي مع ما يسمى بسياسات إدارة أزمة الصراع دون حلها الجذري التي ينتهجها الغرب وعلى رأسه الإدارات الأمريكية المتعاقبة حتى اليوم خاصة في هذه الظروف الدولية المتسارعة التغيير ومحاولات فرضه علينا، أدخلنا في نفق مظلم أصبح من الصعب فيه رؤية الضوء في نهايته، وبتكرار تجارب كان لها جوانب قاسية علينا في بعض جوانبها .

إن تمسك منظمة التحرير وفق تفويضها من شعبنا صاحب المرجعية أولاً وأخيراً، بضرورة إنهاء الاحتلال الاستيطاني وتقرير المصير أولاً وكاملاً كنتيجة يقوم عليها أي مسار سياسي ممكن دون احتكار أمريكي منحاز أمام المجتمع الدولي هو الأمر الأهم الذي يجب أن تتسم به مواقف منظمة التحرير بمقابل أي ضغوطات من شأنها إعادة عجلة التاريخ للوراء بالقبول بتجميلات هنا أو هنالك لوجه هذا الاحتلال الاستعماري من خلال ما يسمى بإعادة بناء الثقة أو "تحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية للسكان" أو الحديث "عن اليوم التالي" أو الجري خلف سراب ينشرون هم أوهامه، هو الأمر الذي يجسد استمرارها كممثل لشعبنا، وذلك أمام الصلف الإسرائيلي بشراكة أمريكية وتصاعد جرائم الاحتلال وبشاعة الفكر الصهيوني العنصري وانزلاق حالة المجتمع الإسرائيلي أكثر إلى العنصرية والفاشية ورفض فكرة السلام وسعية إلى تنفيذ المشروع الصهيوني التوراتي كاملاً .

عقود طويلة مرت منذ تاريخ التأسيس، قدم فيها شعبنا قوافل من الشهداء والجرحى والأسرى. عقود تبدلت فيها الظروف السياسية والأنظمة العربية وشهد فيها العالم متغيرات كبيرة، من احتلال ما تبقى من فلسطين التاريخية عام 1967 وحرب 73 ومؤتمر مدريد وانتفاضة الحجارة الكبرى، ومن ثم ما جرى من تداعيات لاتفاقيات أوسلو وباريس والانتفاضة الثانية، ولاحقا إلى تبدل قطبية النظام العالمي وتغير اللاعبين على الساحة الدولية وبروز لاعبين جدد. وبالنتيجة دون أن يتمكن شعبنا من نيل حقوقه المشروعة، بل إلى استمرار تَنكُر دولة الاحتلال ومِن خلفها الحركة الصهيونية العالمية لكافة الاتفاقيات الموقعة مما أدى إلى استكمال هذا الاحتلال الاستيطاني كأداة استعمارية بالمنطقة بهدف تطويعها بما ويتفق مع مصالح الغرب الاستعماري الذي لم يغير من حالة الظلم التاريخي الذي أوقعه على شعبنا منذ جريمة النكبة عام 1948 وصولاً لليوم الذي لم يعد فيه الحديث حول السلام والخيار الدولي بخصوص حل الدولتين من معنى واقعي دون وضع آليات واضحة لتنفيذه من جهة، وأمام تصعيد جرائم الاحتلال ورفض مجتمعه اليهودي الذي يتجه أكثر إلى معالم الفاشية والأبرتهايد والفوقية الدينية والتطهير العرقي إلى رؤية ضرورات السلام  من جهة أخرى هذا إضافة إلى عدم جدية المجتمع الدولي أو جرأته في تنفيذ قرارات هيئة الأمم أو حتى قرارات العدالة الدولية اليوم التي تتحداها دولة الاحتلال خاصة بما جرى ويجري اليوم في رفح والمواصي وجباليا وجنين بمواصلة محارقها .

إن مواجهة ذلك يتطلب برأيي أن تعلن اليوم منظمة التحرير "الدولة الفلسطينية تحت الاحتلال" من خلال انعقاد المجلس الوطني بعد توسيع عضويته وتحديثها بما يشمل الجميع، وذلك سنداً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2012 وما تبع ذلك من قرار جديد الشهر الماضي الذي يمهد لاستكمال إجراءات العضوية الكاملة في مجلس الأمن الدولي. كما وتمكين شعبنا بالمقومات اللازمة لصموده وحمايته في معارك التمسك بالأرض ومواجهة المستوطنين، كما وإلى ضرورة العمل على استعادة الثقة بين القاعدة والقيادة واعتماد إجراءات تعزز من المقاومة الشعبية بكافة أشكالها وفقاً لما تسمح به الظروف في مقاومة الاحتلال دون الاستكانة إلى ظروف الأمر الواقع ومحاولات الاحتلال بفرض ثقافة الهزيمة علينا. كما وإلى أهمية التوجه نحو اعتماد أسس الاقتصاد المقاوم بعيداً عن التبعية ومن أجل الانفكاك عن الاحتلال وفق قرارات المجالس المركزية المتعاقبة للمنظمة خاصة مع محاولات تقويض دور السلطة ومؤسساتها من جانب الاحتلال في موازاة ما يجري من جرائم الإبادة .

إن توسيع قاعدة تحالفاتنا مع الشعوب والقوى التقدمية وأنصار الحرية والديمقراطية والعدالة بالعالم والدول المناصرة لحقوقنا الوطنية يكتسب أهمية كبيرة وملحة اليوم خاصة مع تصاعد أوجه هذه الانتفاضة الشعبية العالمية التي أصبحت تستحوذ على الإعلام وشوارع العالم وباتت قوة مؤثرة بقرارات العديد من دول العالم حتى أصبح مسار الاعتراف بالدولة الفلسطينية يتعاظم من دول جديدة، وأصبحت دولة الاحتلال الاستيطاني تقف في قفص العدالة الدولية كنظام مارق تسقط ادعاءاتها واحدة تلو الأخرى .

هذا إلى جانب الضرورة القصوى إلى تمتين وحدتنا الوطنية في إطار منظمة التحرير التي يتوجب توسيع قاعدتها ومؤسساتها لتشمل كل مكونات شعبنا كجبهة وطنية عريضة، ودفع الحياة والحيوية بها كعنوان للتحرر الوطني والبناء الديمقراطي وتوحيد خطابها التحرري أمام العالم من خلال استعادة بريقها ودورها القيادي التكاملي لإنجاز مرحلة التحرر الوطني .

 فشعبنا الذي حمل منظمة التحرير منذ البدايات وحماها لا يمكن له بعد مسيرة الكفاح الطويلة والمستمرة القبول بمحاولات تفريغها من جوهر مضمونها أو فرض أية شروط عليها تنتقص من حقها الوطني السياسي والسيادي تحت "مسميات التجديد الأمريكية"، أو بفرض عملية سلام وهمية غير جادة تهدف للاستفادة من الوقت واستدامة الأمر الواقع والاستيطان وتفريغ غزة بعد جعلها مكاناً غير قابل للحياة وفرض التهجير القسري الاختياري على أبنائها وبناتها من خلال ما هو مخطط له بالرصيف العائم وغيره بالتعاون مع دول الغرب لاستقبال اللاجئين في دولهم كما أعلنت اليوم بعض الدول من خلال ما أسمته "تسهيل إجراءات اللجوؤ" ، إضافة إلى مشاريع تهويد القدس والأغوار والخليل وتوسيع الاستيطان بكل زوايا الوطن واستمرار البحث عن بدائل شبيهة بروابط القرى سيئة الصيت التي أفشلها شعبنا بكفاحه الوطني .

فمنظمة التحرير هي العنوان الذي يحب أن يحافظ  على نهج العمل الوطني الثوري ببعده الإنساني التقدمي وثقافتنا المتعددة والمنسجمة في اَن واحد بعد إعادة الروح إليها وعلى الاختلاف في إطار الوحدة حتى تتسع للجميع الوطني دون استثناء أحد، حتى تكون وتستمر إطاراً وحدوياً ديمقراطياً كفاحياً في خوض معاركنا على الجبهات المختلفة، على الأرض وبالمحافل الدولية والإقليمية في مقاومة المشاريع التصفوية البديلة وهذا العدو صاحب جرائم التطهير العرقي والتمييز العنصري والاحلال السكاني، حتى وصول شعبنا إلى أهدافه في ظل ما يجري اليوم من عدوان إبادة جماعية ومحارق بحق شعبنا في غزة وباقي مدن وقرى ومخيمات الوطن، كما وما يجري من تحولات بالعلاقات الدولية وفي مضمون وشكل النظام العالمي تستدعي فهمها وتحديد موقعنا منها وتقيم تجربتنا الطويلة لبناء رؤية تتسم بوضوح المعالم والبرامج والأدوات حتى يكون لنا مكانا تحت الشمس في هذا العالم نحقق به أمانينا العادلة والمشروعة وبالمقدمة منها حقنا بتقرير المصير أسوة بشعوب العالم الأخرى التي أنجزت تحررها الوطني .

في الختام، تظل منظمة التحرير الفلسطينية رمزاً للنضال الفلسطيني ومهما كانت التحديات يجب أن تبقى هي أداة الكفاح الوطني التحرري بفكر متجدد وشرعيات متجددة خاصة من الجيل الشاب الذي يشكل ثلثي تعداد مجتمعنا، حيث الإرادة الوطنية والتصميم على تحقيق الحقوق العادلة ستظل تدفع شعبنا نحو إبداع الأساليب وتحريك الأدوات لتحقيق حلم الحرية والكرامة والاستقلال الوطني لشعبنا الذي حتما سينتصر رغم جسامة التضحيات المستمرة، فنحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا .

Loading...