في الحلقة الأخيرة، نستمرّ في نشر أجزاء من كتاب “محمود درويش في حكايات شخصية”، للمناضل والسياسي والكاتب الفلسطيني نبيل عمرو. وفيها يتناول الموت الذي أحاط بمحمود درويش من الجهات كلّها. من غياب ياسر عرفات الذي أعدّ الشعب الفلسطيني لوداع لا لقاء بعده، إلى غياب إدوارد سعيد وإبراهيم أبو لغد. فننتقل من رثاء إلى موت إلى رثاء. في هذه الحلقة نقترب أكثر من ياسر عرفات ومن محمود درويش ونعيش الموت الذي تفوح رائحته في هذا النصّ من أوّل وداع فيه حتّى ما قبل الوداع الأخير. وداع محمود درويش نفسه الذي في مكان ما كان يرثي نفسه في رثائه من سبقوه.
فاجَأَنا ياسر عرفات بأنّه لم يفاجئنا. كأنّ تطابقاً بين الشخص المريض والنصّ المريض قد حدَّد مسبقاً صورة النهاية. وحرم البطل التراجيدي من إضفاء خصوصيّته على القَدَر. فلا معجزة هذه المرّة، ولا مفاجأة، منذ أصبحت التراجيديا، المصوّرة في مسلسل تلفزيوني طويل، يومية ومألوفة وعاديّة!
لقد أعدَّنا ياسر عرفات، تدريجياً، لوداعه المتواصل أكثر من مرّة. وعوَّدنا على موت غير عاديّ وغير معلن، بغارة من طائرة حربية، أو بسقوط طائرة مدنيّة في صحراء. لكنّه، والأقدار تُضفي عليه سحر الأعجوبة، كان يسبق الموت إلى الحياة. فنحيا معه في رحلة أدْمَنَّا خلالها الرحيل إلى هدف يتلألأ بجماليّات المستحيل، وبشاعرية رعوية تُعيننا على طول الطريق.
من منفى إلى آخر، كان الموضوع ينأى عن أرض الموضوع… ويدنو، في بلاغةٍ ترسم اللافتات بدمٍ قلنا إنّه يخصّب الفكرة وينعش الذاكرة، ويرفع الحدود عن العلاقة بين الواقعي والأسطوري. كنّا في حاجة إلى أسطورة أنجزنا بعض فصولها. لكنّ الأسطورة في حاجة إلى واقع، فهل ينجح الأسطوري في امتحان العمل على أرض الواقع؟ إنّه سؤال مُؤجَّل!
هو، ياسر عرفات، من استطاع أن يروِّض التناقض في المنافي، بمزيج من البراغماتية والدين والغيبيّات. وتحوَّل، بديناميكيّته الخارقة وتماهيه الكامل بين الشخصيّ والعامّ وعبادة العمل، من قائد إلى رمز شديد اللمعان.
لم يزاول مهنة الهندسة لتعبيد الطرق، بل لشقّها في حقول الألغام. قد يحتاج التاريخ إلى وقت طويل لترتيب أوراق هذا الرجل – الظاهرة. لكنّه سيمنحه رتبة الشرف في علم القدرة على البقاء منذ الآن، ومنذ الآن سيتوقّف طويلاً عند مغامرته – المعجزة: إشعال النار في الجليد. فقد قاد ثورة معاكسة لأيّ حساب، لأنّها ربّما جاءت قبل أوانها، أو بعد أوانها ربّما. أو ربّما لأنّ موازين القوى الإقليمية لا تأذن لأحد بإشعال عود كبريت قرب حقول النفط… وعلى مقربة من الأمن الإسرائيلي!
لم ينتصر في المعارك العسكرية، لا في الوطن ولا في الشتات. لكنّه انتصر في معركة الدفاع عن الوجود الوطني. ووضْع المسألة الفلسطينية على الخارطة السياسية، الإقليمية والدولية. وفي بلورة الهويّة الوطنية للفلسطيني اللاجئ المنسيّ عند أطراف الغياب. وفي تثبيت الحقيقة الفلسطينية في الوعي الإنساني. ونجح في إقناع العالم بأنّ الحرب تبدأ من فلسطين، وبأنّ السلم يبدأ من فلسطين.
صارت كوفيّة ياسر عرفات، المعقودة بعناية رمزية وفولكلورية معاً، هي الدليل المعنوي والسياسي إلى فلسطين.
لكنّه، وقد اختزل الموضوعات كلّها في شخصه، صار ضرورياً لحياتنا إلى درجة الخطر… كرَبِّ أسرة لا يريد لأولاده أن يكبروا لئلّا يعتمدوا على أنفسهم. لذلك أعدَّنا، أكثر من مرّة، للتعوُّد على الخوف من فكرة اليُتم، وعلى الخوف من احتضار الفكرة في حال غيابه الجسدي. ومن فرط ما ناوش الموت ونجا، امتلأ لاوعيٌ فلسطينيّ خرافيّ بشعور ما بأنّ عرفات قد لا يموت! وهكذا لامَسَت أسطورته حدود الميتافيزيقيا.
لكنّ المفاجآت كانت تعمل في مكان آخر. فهذا الكائن الرمزي العائد من تأويلات إغريقية، كان في حاجة إلى التخفيف من عبء أسطورته، لأنّ البلد في حاجة إلى بناء وإدارة، وإلى التخلّص من الاحتلال بوسائل جديدة. وهو الآن مكشوف أمام الجميع، عرضة للمسّ والهمس والمساءلة. ومن سوء حظّ البطل أنّ عليه أن ينتصر على الأعداء في معارك غير متكافئة، من جهة… وأن يصون صورته في المخيّلة العامّة من نتوءاتها الداخلية من جهة أخرى.
لكن، وهو المشبع بثقافة صلاح الدين التفاوضية، وبتسامح عُمَر، لم يأتِ على حصان أبيض، ولا ماشياً أمام جَمَل… فلا مكان للخيل والإبل في بلاغة الأزمنة الحديثة. بل جاء إلى واقعه الجديد محمولاً على اتفاق أوسلو، ذي الجوهر الأمنيّ الخالي من الإفراط في التفاؤل، والمفتوح على غموض النيّات. لكنّه عاد، وفي ذهنه خاطرة مرِحة: حتى النبيّ موسى لم يعُد إلى “أرض الميعاد”!
هي خطوة أولى نحو الدولة، يقول، ويعلم أنّ فلسطين ما زالت هناك: في القضايا المعلّقة على مفاوضات الوضع النهائي. حول القدس وحقّ العودة وغيرها من القضايا الشائكة. والطريق إلى هناك لا يمرّ من أوسلو، بل من مرجعيات الشرعية الدولية.
كان يعلم أنّ تلك المرجعيات لم تعد صالحة تماماً في عالم القطب الواحد، الذي رفع الدولة الإسرائيلية إلى مرتبة المقدّس الذي يُلهم “البيت الأبيض” بتعاليمه السماوية! ويعرف أيضاً أن المراسم الرئاسية وبطاقات الهويّة وجوازات السفر لا تعني. بالنسبة إلى المسؤولين الإسرائيليين. إلا ضرورة إلهاء المحرومين من الاستقلال بوجبات رمزية سريعة لا تشبع الهويّة الجائعة. ويعرف أيضاً وأيضاً أنّه قد انتقل من المنفى إلى سجن مؤثَّث بصور الأشياء لا بحقيقتها. وأنّه في حاجة إلى إذن بالانتقال من سجن في رام الله إلى سجن في غزة. ولا بأس من سجّاد أحمر… ونشيد.
من هنا، بدأت محنة الرئيس، وداؤه السياسي والمعنوي. فهذا الأسير العظيم، المحكوم بالشروط الإسرائيلية القاسية، لا يستطيع التقدّم نحو الفهم الإسرائيلي لعملية السلام، ولا يستطيع التراجع إلى أبجديّات الصراع التقليدية. ولا يعزِّيه أنّ من ندم على أوسلو وخان تداعياتها هو “الشريك الإسرائيلي” الذي لم يعد شريكاً. فما العمل؟
لم يختلف أحد على حقّ الفلسطينيين في المقاومة. فكانت الانتفاضة الثانية تعبيراً طبيعياً عن إرادتهم الوطنية وإصرارهم على إعادة الحياة إلى الأمل بسلام حقيقي يحقّق لهم الحرّية والاستقلال. لكنّ أسئلة كثيرة طُرحت حول الوسائل التي ينبغي أن تخدم هذا الهدف. وتجنِّب الفلسطينيين خطر استدراجهم إلى الحلبة العسكرية التي تَشَهّاها شارون ليدرج حربه على الكيانية الفلسطينية الوليدة في سياق الحرب العالمية على الإرهاب. منذ أضاعت أميركا الحدود بين مفهوم المقاومة ومفهوم الإرهاب!
لم يعد أمام ياسر عرفات إلّا الرهان على قَدَرٍ لا يستجيب، وعلى معجزة لا تُطيع هذا الزمن. المقاطعة، مقرّه ومنزله الوحيد، تنهار عليه غرفة غرفة. وهو يردِّد في نبرة نبويّة: “شهيداً شهيداً شهيدا”، فيثير في النخوة العربية قشعريرة كهربائية عابرة. لكنّ تكرار أخبار المأساة يجعلها عاديّة. وهكذا صار حصار عرفات أمراً مألوفاً… ثلاث سنوات من تسميم الحياة. ثلاث سنوات من استنشاق الهواء الفاسد. ثلاث سنوات من هجاء أميركي “لم يعد ذا صلة”. ثلاث سنوات من الكدِّ الإسرائيلي لتجريد عرفات من صلاحيّته وصلاحيّة رمزيّته. بيد أنّ الفلسطينيين قادرون دائماً على الترميز: حصار الرئيس رمز لحصارنا، ومعاناته رمز لمعاناتنا. فهو معنا، وفينا، ومثلنا، نحبُّه لأنّنا نحبّه. ونحبّه لأنّنا لا نحبّ أعداءه.
لم يفاجئنا هذه المرّة. فقد أعدَّنا لوداع لا لقاء بعده. خرج المحاصَر من حصاره ليزور الموت في المنفى، وليزوِّد الأسطورة بما تحتاج إليه من مكر النهاية. لقد منحنا الوقت ليتدرّب الحزن فينا على أدوات التعبير اللائقة، ولنبلغ سنّ الفطام التدريجي. في كلّ واحد منّا شيء منه. هو الأب والابن: أبو مرحلة كاملة من تاريخ الفلسطينيين، وابنهم الذي أسهموا في صوغ خطابه وصورته.
اثنان كان محمود يراهما نجمين ساطعين في سماء العالم: إدوارد سعيد الذي كان يصفه بأهمّ مفكّر وناقد في العالم وإبراهيم أبو لغد توأم إدوارد ورفيقه في الاغتراب الأميركي. مات الاثنان قبله. عاش احتضارهما لحظة بلحظة. سيموت إدوارد بعد أن يسأم من استلاف الدم من البنك.
كان العالم الكبير يغيّر دمه بصورة دوريّة. أمّا إبراهيم الذي كان مصرّاً على الحياة بقوّة وتصميم، فقد كان محمود يخاف عليه من موت غير عاديّ. كان إبراهيم مصاباً بأزمة صدرية تكتم أنفاسه وتوقفه على شفير الموت اختناقاً كلّ يوم. وحين تفاقمت الأزمة ولم تعد “البخّاخة” قادرة على فتح قنوات التنفّس وتخفيف الاحتقان والألم، أوحى أطبّاؤه بأن يستخدم جهاز التزوّد بالأوكسجين. لم يستكن إبراهيم. كان يحمل الجهاز الذي يشبه أنبوبة الغاز ليضعها معه في المقعد الخلفي للسيارة ويضع الكمّامة على أنفه ويمضي إلى حياته العاديّة.
كان محمود درويش معجباً بقوّة الحياة، وخائفاً من الموت غير العاديّ الذي أحاط به، وأطبق على روحه. الذين رأوا جسده بعد الجراحة القاتلة حدّقوا في تفاصيل وجهه الجميل الذي لا يشبهه وجه آخر. قالوا: كما لو أنّه نائم.
نيويورك/ نوفمبر/ الشارعُ الخامسُ/
الشمسُ صَحنٌ من المعدن المُتَطَايرِ/
قُلت لنفسي الغريبةِ في الظلِّ:
هل هذه بابلٌ أَم سَدُومْ؟
هناك، على باب هاويةٍ كهربائيَّةٍ
بعُلُوِّ السماء، التقيتُ بإدوارد
قبل ثلاثين عاماً،
وكان الزمان أقلَّ جموحاً من الآن…
قال كلانا:
إذا كان ماضيكَ تجربةً
فاجعل الغَدَ معنى ورؤيا!
لنذهبْ،
لنذهبْ إلى غدنا واثقين
بِصدْق الخيال، ومُعْجزةِ العُشْبِ/
لا أتذكَّرُ أنّا ذهبنا إلى السينما
في المساء. ولكنْ سمعتُ هنوداً
قدامى ينادونني: لا تثِقْ
بالحصان، ولا بالحداثةِ/
لا. لا ضحيَّةَ تسأل جلاّدَها:
هل أنا أنتَ؟ لو كان سيفيَ
أكبرَ من وردتي… هل ستسألُ
إنْ كنتُ أفعل مثلَكْ؟
سؤالٌ كهذا يثير فضول الروَائيِّ
في مكتبٍ من زجاج يُطلّ على
زَنْبَقٍ في الحديقة… حيث تكون
يَدُ الفرضيَّة بيضاءَ مثل ضمير
الروائيِّ حين يُصَفِّي الحساب مَعَ
النَزْعة البشريّةِ… لا غَدَ في
الأمس، فلنتقدَّم إذاً!/
قد يكون التقدُّمُ جسرَ الرجوع
إلى البربرية…/
قصيدة طباق “في رثاء إدوارد سعيد”
طريق العودة هي طريق لمعرفة في رثاء إبراهيم أبو لغد
كلّ موت هو موت أوّل. مفاجئ، صاعقٌ، غير معروف وغير مألوف.
لن نألف الحديث عن إبراهيم أبو لغد باستخدام فعل الماضي الناقص. فما زلنا معه، حوله، وهو يواصل البحث الحماسي عن حياة مختلفة في ساحة هذه الزنزانة. عن حياة تتّسع لحلم عاديّ، يحقّق فيها الفرد والجماعة حرّية الاختيار لطريقتهم الخاصة في الإقامة على هذه الأرض.
لقد أشاح بوجهه عن شبح الموت، وتابع التحديق إلى تفاصيل صورة غدنا. كان يعرف أنّنا لا نعرف أنّه يعرف ما نعرف عن سفره القريب إلى المطلق المجهول. لكن كان حتى اللحظة الأخيرة، عاكفاً على العمل لوطنه الزمني كأنّه يعيش أبداً، معنا، فينا، وفي الأجيال المقبلة. لأنّ سؤال الحياة هو سؤاله الأبدي. ولأنّ فلسطينه – الواقعية والمتخيّلة، هي صورة الجحيم والفردوس معاً. ولأنّ سدرة المنتهى تنمو في مدينة يافا.