خسارات إسرائيل في حرب الإبادة ضدّ قطاع غزّة


 من الصعب، والمبكر، تحديد ميزان المخاسر أو المرابح في الحرب المدمرة التي تشنها إسرائيل ضد فلسطينيي قطاع غزة، منذ ثمانية أشهر، إذ إن معظم الحروب تنطوي على مخاسر لكل الأطراف، رغم التمييز بين الطرف الأقل خسارة، والأكثر قدرة على تحملها، والطرف الأكثر خسارة، والأقل قدرة على تحمل نتائجها وتبعاتها، من مختلف النواحي.

أيضاً، ومثلما أنه لا يمكن تحميل الفلسطينيين، أو جماعات المقاومة، أو كتائب القسام، مهمة كسر الجيش الإسرائيلي، أو هزيمة إسرائيل، على أي مستوى، فإنه بالمثل لا يمكن لإسرائيل أن تتمكن من كسر إرادة الفلسطينيين، وإخضاعهم كشعب لهيمنتها، على المدى البعيد، وهذا ما ثبت تاريخياً، على رغم أنها تستطيع أن تقتل وأن تدمر وأن تشرد. 

يستنتج من ذلك أن ثمة فرقاً بين النتائج القريبة والمباشرة، والنتائج البعيدة وغير المباشرة، لأي مواجهة فلسطينية إسرائيلية، مهما كانت حدودها وأبعادها ومستوياتها.

تبعاً لتلك المعايير، ورغم أن الفلسطينيين يدفعون ثمناً باهظاً لتلك الحرب، من كل النواحي، فإنه يمكن القول إن إسرائيل، في حربها على غزة، خسرت كثيراً من صورتها ومن مكانتها، وحتى من هيبتها العسكرية، إزاء ذاتها وإزاء العالم، لا سيما في الجوانب الآتية:
أولاً، هي خسرت طبيعتها كدولة ليبرالية ديموقراطية (تبعاً لمواطنيها من اليهود)، وقد بدا ذلك واضحاً، حتى قبل حرب غزة، بمحاولة حكومة نتنياهو ـ سموتريتش ـ بن غفير إحداث انقلاب سياسي ـ دستوري في إسرائيل بتقويض السلطة القضائية، عبر تحجيم دور "المحكمة العليا" في مراقبة الحكومة وإخضاعها للقانون. وكما شهدنا فقد أدى ذلك إلى خلق استقطاب حاد بين الجمهورين العلماني والمتدين في إسرائيل، باعتبار أن ذلك من شأنه تغليب طابع إسرائيل كدولة يهودية، عنصرية ودينية متطرفة، على طابعها كدولة ديموقراطية وليبرالية وعلمانية؛ وهي مواجهة ما زالت مستبطنة في تحركات الشارع الإسرائيلي، وفي نظرة الدول الغربية، ويهود العالم، لإسرائيل التي باتوا يرونها كدولة مارقة في ظل حكومتها اليمينية المتطرفة. وقد عززت حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد فلسطينيي غزة من هذا التوجه، مع تعزز هيمنة الثلاثي نتنياهو سموتريتش بن غفير على السياسة الإسرائيلية، ومناهضتها لتوجهات المجتمع الدولي بوقف الحرب، وتعمدها استهداف المدنيين وتدميرها غزة.  

ثانياً، أدت تلك الحرب بكل وقائعها إلى خسارة اعتبارها ضحية، أو تحتكر مكانة الضحية في الضمير العالمي، مع انهيار صورتها كدولة تمثل ملاذاً آمناً ليهود العالم، وكدولة تمثل ضحايا الهولوكست اليهود، التي حاولت الدول الغربية (في أحد تبريراتها) التعويض عن المظالم المرتكبة بحقهم في مجتمعاتها (إبان الحرب العالمية الثانية)، فإذا بهذه الدولة تغدو دولة استعمارية واستيطانية وعنصرية ودينية في الشرق الأوسط، بل باتت تمارس حرب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين الذين تحتل أراضيهم. هكذا ففي إسرائيل ثمة وزير (عميحاي إلياهو) يدعو لاستخدام قنبلة نووية للتخلص من الفلسطينيين، ووزير آخر (سموتريتش) يدعو لمحو مناطق فلسطينية، ووزير ثالث (بن غفير) يشكل ميليشيات للمستوطنين للاعتداء على أهل الأرض الأصليين وإجبارهم على ترك أراضيهم، ناهيك أن إسرائيل قتلت، في حوالي ثمانية أشهر، من الفلسطينيين أكثر بكثير مما كانت قتلتهم طوال قرابة ثمانية عقود، ناهيك عن تدميرها بيوتهم وعمرانهم، وحرمانهم من مقومات العيش، أي الماء والكهرباء والغذاء والمأوى والوقود والدواء، دون أي مبالاة بالعالم، أو بقرارات المنظمات الدولية، وحتى أنها تعاملت بوقاحة مع الأمم المتحدة ومع منظمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية.

إلى ذلك، فقد فقدت إسرائيل تلك الصورة التي كانت أثيرة لديها، وكانت تروجها في العالم، منذ إقامتها 1948، أي صورة الضحية، وصورة الدولة الديموقراطية، بانكشافها على حقيقتها كدولة استعمارية وعنصرية ودينية وعدوانية، وتمارس الإبادة الجماعية.

ثالثاً، فوق ما تقدم، فقد غدت إسرائيل، بالسياسات التي تنتهجها ضد الفلسطينيين، بمثابة عبء سياسي وأمني واقتصادي وأخلاقي، على يهود العالم، وعلى الدول الغربية التي يعيشون فيها كمواطنين، وباتت كدولة مثيرة للاضطراب وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط. وفي الواقع فإن إسرائيل خسرت كثيراً من رأسمالها الرمزي والمعنوي والتاريخي، وحتى المادي، رغم جبروتها العسكري، وقدرتها على البطش، فهي باتت معزولة، ومدانة، على أكثر من صعيد، إلى درجة يمكن القول معها إنه لم يبق لديها سوى الولايات المتحدة الأميركية التي تقف معها، وتغطيها، وتدعم سياساتها، وإلى الدرجة التي يبدو أن قادتها يصرون على بقائها كـ"غيتو" في الشرق الأوسط، معزولة ومخيفة وغير مرغوبة، في الشرق الأوسط وفي العالم.

رابعاً، تبعاً لكل ما تقدم، فإن حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل، على مرأى من العالم، ومن دون أي حساب، أدت إلى خلق تصدعات عديدة، فهي أدت إلى تصدع علاقتها بالدول الغربية، وضمنها الولايات المتحدة، وخلقت تصدعات في تلك الدول بين الرأي العام فيها وحكوماتها، التي باتت تحاول إبداء مواقف مرنة، بعدما كانت قد دعمت حرب إسرائيل. أيضاً فإن ذلك خلق شرخاً في وحدة مواقف الدول الغربية، إذ باتت الولايات المتحدة وحدها (باستنثاء دولتين أوروبيتين (تشيكيا وهنغاريا)، في التصويت على الدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة، فحتى بريطانيا وألمانيا امتنعتا عن التصويت، فيما أيدت فرنسا ذلك.

لكن التصدع الأكبر الذي خلقته الحرب الإسرائيلية في الغرب بدا واضحاً في ذلك الشرخ بين الحكومات والرأي العام، في مدن وعواصم الدول الغربية وضمنها الولايات المتحدة، الذي عبر عن ذاته بالتظاهرات والحراكات الشعبية التي تدين حرب إسرائيل في غزة، وتبدي التعاطف مع الفلسطينيين، إلى درجة باتت معها قضية إبداء الرأي في إدانة سياسات إسرائيل وإنصاف الفلسطينيين جزءاً من المعركة على الحرية والعدالة وحقوق المواطنة في الدول الغربية ذاتها، وهو الأمر الذي أثر كثيراً في الولايات المتحدة وفي أوساط الحزب الديموقراطي. أيضاً تجلى ذلك التصدع في تبلور جماعات أو تيارات يهودية في الدول الغربية التي رفعت صوتها بأن ليس باسمنا ما تقوم به إسرائيل ضد الفلسطينيين، وأن إسرائيل لا يحق لها احتكار تمثيل اليهود في العالم، ولا احتكار الحديث باسم ضحايا الهولوكوست، وأن العداء لإسرائيل شيء، بسبب سياساتها الاستعمارية والعنصرية والعدوانية، والعداء للسامية شيء آخر. 

طبعاً إسرائيل الإسبارطية المتطرفة لا تلوي على شيء، فالتيار السائد فيها يريدها غيتو يهودي في الشرق الأوسط، لا سيما أن سياساتها تتمتع بتغطية الولايات المتحدة، لكن ذلك لا بد سيؤثر على مكانتها وطبيعتها، إن ليس راهناً فمستقبلاً، مع توفر العوامل والظروف المواتية. 

في دلالة إلى التصدع الداخلي في إسرائيل، يقول يحيعام فايس: "في يوم الاستقلال احتفلوا في إسرائيل كدولة سيادية منذ 76 سنة، لكنهم لم يشيروا إلى أنها قبل 57 سنة أصبحت دولة احتلال... تسيطر على ملايين الفلسطينيين في الضفة وغزة. دون حقوق إنسانية أو حقوق مواطنة... إضافة إلى ذلك، فإن آلاف المستوطنين يعيشون في عشرات المستوطنات بالضفة، في مناطق مكتظة بالسكان الفلسطينيين، الذين يعانون عنصرية المستوطنين الذين يعتبرونهم نوعاً دون البشر... في الحكومة الحالية، حكومة العار والخجل، فإن هناك وزراء قريبين في روحهم من "شبيبة التلال"، يمثلونهم ويدافعون عنهم بوقاحة كبيرة... تجدر الإشارة إلى أن قتلى 7 أكتوبر والكثير من المصابين والمخطوفين في أنفاق غزة هم ضحايا الاحتلال. "حماس" تمّت إقامتها وتطويرها في غزة كمنظمة فلسطينية انضمت للنضال ضد الاحتلال في القطاع... "حماس" تقوّت أيضاً لأن نتنياهو كان يطمح إلى المس بقوة السلطة الفلسطينية... ومنع الشعب الفلسطيني من القدرة على تطوير كيان وطني مستقل... مذبحة 7 أكتوبر لم تكن كارثة نزلت علينا من السماء، بل كانت إشارة واضحة إلى الشرخ الذي أوجده الاحتلال. نحن ندفع ثمن الاحتلال منذ خمسين سنة وأكثر". ("هآرتس"، 28/5/2024)

 

Loading...