لماذا يسعى بايدن لإنهاء الحرب على غزة وفرض "مبادرة سلام" على نتنياهو؟

في السياق التاريخي والسياسي ومنذ تصاعد جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق شعبنا الفلسطيني، تدّعي الإدارة الأمريكية أنها تبذل جهوداً دبلوماسية كبيرة لوقف العنف وتحقيق السلام. أما في واقع الأمر فقد شكل الدعم الأمريكي لسياسات إسرائيل وحتى المساندة السياسية والعسكرية جزءا من الشراكة الاستراتيجية الأوسع والتي تهدف إلى تحقيق "الاستقرار" في الشرق الأوسط من وجهة نظر أمريكية قديمة جديدة تعتمد على مبدأ إشاعة الديمقراطية والاستقرار بواسطة الحروب من جهة، وتعزيز فكرة إنقاذ إسرائيل من نفسها وفق محددات العلاقة الإستراتيجية القائمة بينهم والتي أشرت لها بمقالات سابقة لي من جهة أخرى من أجل خلق بيئة مناسبة لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي بدأ الحديث عنه قبل ربع قرن من الزمن، كما وتعزيز سياسات الوهم والخداع التي تتبعها تحت ذريعة "الوسيط النزيه" في "الصراع" الإسرائيلي الفلسطيني.

الأسباب والدوافع

في هذا الإطار تسعى إدارة بايدن اليوم ومن خلال المبادرة المطروحة من ثلاث مراحل لتحسين صورتها الدولية من خلال الضغط لوقف الأجرام الإسرائيلي في غزة و"تحسين الأوضاع الإنسانية." بعدما أصاب النظامين السياسيين بإسرائيل والولايات المتحدة من عزلة دولية والوقوف في قفص العدالة مما يعكس توجهها هذا بعد افتضاح أمر صورتهما على كافة المستويات الداخلية والدولية وتعرّض دولة الاحتلال لما لم يكن في حسابها من مخاسر مختلفة وتشظي مجتمعها وتهديد استقراره.

الاستقرار الإقليمي

يعتبر الاستقرار في الشرق الأوسط وهي المنطقة الجيوسياسية الهامة للولايات المتحدة لاعتبارات متعددة، أولوية استراتيجية لها بهدف تنفيذ مشاريعها وبرامجها السياسية الإقتصادية خاصة اليوم بعد انسحابها من مناطق نزاع مختلفة بسبب الضرر الذي لحق بها ومن أجل محاولة التصدي للتمدد الصيني والروسي في منطقتنا وتنفيذ مشاريع ربط أوروبا مع آسيا بالطرق والملاحة والاقتصاد وفق توصيات قمة دول العشرين في الهند الشهر الماضي. لهذا تتجنب الإدارة الأمريكية تصعيداً أكبر قد يهدد مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة. لذلك فإن تحقيق هدنة مستدامة وفق ما قدمه بايدن بلغته وطريقته نقلاً عن المقترحات الإسرائيلية يمكن أن يسهم في تحقيق استقرار نسبي في المنطقة المضطربة هذه من وجهة نظرهم، وتقليل التوترات بالمنطقة التي تشعلها هي بالأساس.

السياسة الداخلية وعلاقاتها الدولية

يواجه بايدن ضغوطًا داخلية من مجموعات ضغط وأعضاء في الحزب الديمقراطي من الجناح التقدمي تحديداً الذين يدعون إلى اتخاذ موقف متشددة تجاه سياسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية وخاصة مع دعوة نتنياهو لتقديم خطاب أمام الكونغرس الامريكي. تلبية هذه المطالب يعزز الدعم السياسي لبايدن داخل الولايات المتحدة. كذلك، هناك قاعدة شعبية متزايدة داخل الولايات المتحدة وبشكل خاص بالجامعات تدعو إلى تبني سياسات أكثر توازناً تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وضرورة تلبية حقوق شعبنا السياسية وإعادة النظر بالعلاقة مع دولة الاحتلال.

من جانب آخر فإن تحسين العلاقات مع الدول العربية والإسلامية من أولويات إدارة بايدن، فإن الضغط على إسرائيل لوقف الجرائم المرتكبة قد يساهم في  تحسين هذه العلاقات ودعم موقف الولايات المتحدة في تعزيز التحالفات الاستراتيجية والمساهمة في تعزيز الأطماع الاقتصادية والأمنية العسكرية للولايات المتحدة في المنطقة.

وبتنفيذ كل ذلك يبدو أن إدارة بايدن أصبحت معنية لإخراج نتنياهو من موقعه واستبدال حكومة الاحتلال لسهولة تمرير مشاريعها.

 التحديات والإحتمالات

رغم الجهود الكبيرة التي تنشغل بها واشنطن، يبقى نجاح بايدن في إنهاء الحرب على غزة وتحقيق مبادرة تهدئة مستدامة أو وقف الحرب، أمر غير مؤكد بسبب عدة عوامل معقدة:

1. الاستجابة الإسرائيلية:

من هذا الجانب، ورغم أن المبادرة تشكل في مضمونها الردود الإسرائيلية نفسها، فقد حافظ نتنياهو على موقف متشدد ضد أي مبادرة لا تلبي أهداف إسرائيل "من الحرب" والتي فشل في تحقيقها سوى من الإبادة الجماعية والتدمير. وأكد نتنياهو أن الهدف الأساسي هو التفكيك الكامل لحركة حماس. كما انتقد أي مقترحات لوقف إطلاق النار لا تضمن هذا الهدف، مشدداً على أن "الحرب" ستستمر حتى تحقيق جميع الأهداف الأمنية لإسرائيل، كما وأبدى نتنياهو حذره من نقل السيطرة على غزة إلى السلطة الوطنية الفلسطينية التي يسعى أيضا إلى إعاقتها. قبول أو رفض نتنياهو وأطراف أخرى في الحكومة الإسرائيلية للمبادرات الأمريكية يلعب دوراً حاسماً. إذا لم تكن هناك استعدادات إسرائيلية لتقديم تنازلات، فقد تواجه الجهود الأمريكية صعوبات كبيرة. تاريخياً، شهدت محاولات السلام نجاحات وإخفاقات تعتمد كثيراً على الإرادة السياسية لدى قادة الاحتلال الإسرائيلي الذين ما زالوا يمعنون في تنفيذ المشروع الصهيوني كاملاً في كل فلسطين التاريخية ويرفضون فكرة السلام بين الشعبين.

2. الموقف الفلسطيني:

قبول أو رفض فصائل المقاومة الفلسطينية وخاصة حماس، للمبادرات الأمريكية هو عامل آخر حاسم. بدون توافق فلسطيني داخلي ودعم شعبي، قد تكون المبادرات غير فعالة، حيث الانقسام الفلسطيني الحاصل بين حماس وفتح منذ الانقلاب في غزة يعقد الأمور، حيث يتوجب على الولايات المتحدة والقوى الإقليمية عدم الاعتراض اليوم على توحيد الصف الفلسطيني لتسهيل أي مفاوضات مستقبلية مع الإسرائيليين، وهو ما يتطلب إرادة جمعية وطنية فلسطينية أولاً. ورغم أن حركة حماس أبدت رد فعل إيجابي حذر تجاه مبادرة بايدن، لا سيما فيما يتعلق بالاقتراحات بزيادة المساعدات الإنسانية لغزة، إلا أنها، أعربت عن تحفظات قوية بشأن أي خطط لما بعد الحرب التي تستبعدهم من الحكم أو تقلل من نفوذهم في غزة. وهو برأيي أمر لا يتوجب التعاطي معه من وجهة نظر أحادية لحماس بما لا يخدم مصلحتها والمصلحة الوطنية التي تقتضي اليوم انضمامها لمنظمة التحرير الفلسطينية صاحبة الولاية القانونية والمكانة التمثيلية الدولية، مع ضرورة تجديد حيويتها وتفعيل دورها وتحقيق مشاركة الكل الفلسطيني الوطني في أُطرها التي أصبح من الضروري دعوتها للاجتماع كي تكون المنظمة حينها قادرة على مواجهة التحديات وفرض دورها بالمفاوضات القادمة.

3. الدعم الدولي:

مدى الدعم الذي ستحصل عليه الولايات المتحدة من حلفائها الأوروبيين والدول العربية والإسلامية سيكون له تأثير كبير على مسار هذه المبادرة التي أطلقها بايدن. حيث قد تحظى الجهود الأمريكية بفرصة أفضل للنجاح إذا كانت مدعومة بتحالف دولي واسع. الدعم من الاتحاد الأوروبي والدول العربية والإسلامية كما من الأمم المتحدة يمكن أن يعزز من فرص نجاح المبادرة الأمريكية ويزيد من الضغوط على الأطراف المعنية للالتزام بالحلول المقترحة.

4. الوقائع والمتغيرات الإقليمية:

الوضع في المنطقة بشكل عام، بما في ذلك العلاقات مع إيران وتأثيراتها على حماس وقوى المقاومة الأخرى، والوضع في لبنان وسوريا والعراق واليمن، كلها عوامل تؤثر على إمكانية تحقيق ما تعمل عليه الولايات المتحدة. التوترات الإقليمية ودور اللاعبين الاخرين مثل إيران وتركيا قد تزيد من تعقيد الوضع، مما يستدعي استراتيجيات أكثر شمولاً للتعامل مع هذه الوقائع ومصالح هذه الأدوار.

5. السياسة الداخلية في الولايات المتحدة:

مدى دعم الكونغرس والجمهور الأمريكي لسياسات بايدن في الشرق الأوسط أمر هام. فمن غير توفر دعم قوي من الداخل الأمريكي قد تجعل جهود بايدن محدودة، إضافة إلى التحولات في المشهد السياسي الأمريكي، مثل المظاهرات الجارية والخلافات بالكونغرس والانتخابات القادمة قد تؤثر على قدرة بايدن على تنفيذ سياساته الخارجية بالمرحلة القريبة القادمة.

الرؤية الأمريكية الأوسع

تعكس مبادرة بايدن لتحقيق التهدئة في غزة جزء من رؤية أمريكية أوسع للشرق الأوسط تتضمن:

1. التوازن الإقليمي:

الحفاظ على توازن القوى بين الدول الإقليمية الكبرى مثل السعودية وإيران وتركيا، لضمان عدم هيمنة طرف على المنطقة بشكل يهدد المصالح الأمريكية، كما أن تعزيز الشراكات الاستراتيجية مع الدول الخليجية ومصر والأردن يعتبر جزءا من هذه الرؤية.

2. الأمن القومي الأمريكي:

حماية المصالح الأمريكية في المنطقة والإبقاء على دورها المهيمن، بما في ذلك منع تطور فكر وثقافة وشكل المقاومة وضمان تدفق النفط والغاز بشكل مستقر. الاستقرار في الشرق الأوسط يعتبر ضرورياً لتحقيق هذه الأهداف، كما وتعزيز التعاون الأمني مع دول المنطقة تحت اشرافها يعتبر من الأولويات لها.

3. التطبيع العربي الإسرائيلي:

استمرار وتعزيز عملية التطبيع بين إسرائيل والدول العربية التي بدأت مع اتفاقيات أبراهام. حيث تسعى الإدارة الأمريكية إلى توسيع هذه الاتفاقيات لتشمل دولًا عربية وإسلامية أخرى، مما يعزز الأمن والاستقرار الإقليمي من وجهة نظرها التي لا ترى فيها سوى جزء من الحقائق وأنصاف الأشياء وأهمية إسرائيل في الاندماج بهذا الشرق الأوسط بل وقيادته. حيث اليوم يأتي موضوع التطبيع السعودي الإسرائيلي من أولويات ذلك بالنسبة للولايات المتحدة التي تضغط بالاتجاهين أمام تمسك السعودية بإقامة الدولة الفلسطينية قبل إنجاز التطبيع.

في نهاية المطاف، فإن نجاح بايدن في إنهاء حرب الإبادة على غزة وفرض "مبادرة تهدئة مستدامة" يعتمد على قدرة الإدارة الأمريكية على التنقل بين هذه التحديات المعقدة وتحديداً التعاطي مع حكومة نتنياهو التي تشهد تهديدات للإطاحة بها من الصهيونية الدينية من جهة والمعارضة الصهيونية الليبرالية من جهة أخرى. 

 إن ما يتوجب أن تدركه الولايات المتحدة اليوم بعد كل ما جرى ويجري من مُتغيرات لا تقبل باستمرار عقلية الإستعمار الاستيطاني والتمييز العنصري والحصار، هو ضرورة التغير الجذري للمواقف الأمريكية وهو أمر قد يحصل بمزيد من الاحتجاجات الشعبية وتعرض مصالحها للضرر وهو أمر يحتاج إلى موقف عربي واضح في وجهها. وأن إنهاء الاحتلال الاستيطاني أولاً على قاعدة وحدة أراضي الدولة الفلسطينية هو الشرط الأساسي لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط.

وهذا يتطلب استراتيجية دولية شاملة وتنسيقا مع كافة الأطراف المعنية لتحقيقه وفق القرارات الدولية والقانون الدولي وبالمقدمة منها تنفيذ حق تقرير المصير لشعبنا واقامة دولته الديمقراطية ذات السيادة وتنفيذ حل قضية اللاجئين وفق القرار 194، وبغير ذلك تظل التحديات ومظاهر التوحش الفاشية الإسرائيلية كبيرة والتي لن يقبل شعبنا بها ولا بالتعايش معها محتفظاً بحق وشرعية مقاومتها. لكن الأمل في الحرية والسلام الدائم يستحق السعي المستمر من كل الشعوب من أجل الوصول له..

Loading...