كرى 5 حزيران التي مرت علينا قبل أيام ليست "نكسة" كما يصفها البعض، إنها الذكرى الـ 57 لاستكمال المشروع الصهيوني العالمي باحتلال استعماري لمساحة 22 % مما تبقى من أرض فلسطين التاريخية إضافة إلى أراضٍ عربية أخرى.
إنها جريمة مكتملة الأركان قد ارتكبتها دولة إسرائيل الاستعمارية بمفهوم القانون الدولي بعد جريمة النكبة والتطهير العرقي ضد شعبنا قبل أكثر من سبعة عقود في عام 1948 من خلال عصاباتهم الإرهابية التي أسست "لدولتهم" بهدف محاولات تنفيذ مشروعهم المتكامل بدعم قوى الاستعمار الغربي على حساب حقوق تاريخية وسياسية وقانونية لشعب اصلاني هو شعبنا الفلسطيني.
واليوم بعد تلك الجرائم المتنوعة والمستمرة شكلاً ومضموناً بحق شعبنا الفلسطيني وبحق الأعراف الدولية وتحديداً مبادئ حق تقرير المصير، الحرية، الديمقراطية والعدالة والسلام التي دفعت شعوب العالم تضحيات كبيرة من أجل ترسيخها بعد هزيمة النازية بالحرب العالمية الثانية وبشكل خاص في أوروبا وقبل أن تنقلب عليها الولايات المتحدة التي مارست الجرائم لاحقاً بحق شعوب الأرض وهيمنت على النظام الدولي لخدمة رؤيتها.
فلقد أصبحت هذه "الدولة" إن جاز تسميتها كذلك، ترتقي في تكوينها بعد مفهوم الإستعمار إلى أشكال النظم الفاشية والفوقية الدينية العنصرية وتعيش أزمات عميقة وتناقضات متعددة الاتجاهات تنخر بالفكر الصهيوني نفسه الآن وبمكونات مجتمعاتهم المتباينة أصلا. فبالإضافة إلى كونها دولة احتلال استيطاني وابرتهايد وتطهير عرقي، فهي دولة دون دستور أساسي ودون حدود معلنة وبنشيد وطني يقوم على أساس الكراهية والتحريض والقتل الدموي والإرهاب ضد الفلسطينيين وأصولهم التاريخية، وبالتالي لا أعرف إذا ما كان مصطلح ومفهوم دولة ينطبق على هذا الكيان، سوى فرضه أمراً واقعاً ودون أن ينطبق مع القرار 181 الأممي الداعي لإقامة دولتين.
إنه كيان مصطنع وظيفي كولنيالي أقيم أساساً عام 48 وتمدد عام 67 على حساب حل المسألة اليهودية بالمجتمعات الأوروبية التي كانوا يعيشون فيها كجزء من شعوبها، وفق رؤية تقوم على أساس الهجرة الاستيطانية والاحلال السكاني والتطهير العرقي لشعبٍ هو صاحب هذه الأرض، وكأداة متقدمة للغرب الإستعماري لإجهاض تقدم العالم العربي وضرب نهوض حركة شعوبه القومية.
بعد هذه السنوات وضرورات استكمال مشروعنا التحرري الوطني الفلسطيني والبناء الديمقراطي، فإن السؤال الذي يبرز الاَن هو؛ كيف نبني نحن اليوم على تلك الأزمات وهذه العزلة المتزايدة التي يعيشها هذا الكيان ونعمقها خاصة في ظل تزايد مواقف اليهود حول العالم المناهضة لشكل جوهر كيانهم الحالي، وبدء تراجع الهيمنة الأمريكية وبدايات ظهور معالم نظام دولي جديد ومتغيرات واسعة وجذرية بالرأي العام الدولي وحتى في المواقف الرسمية لعدد من الدول وتعاظم مناهضة دولة الاحتلال ووقوفها في قفص العدالة الدولية لأول مرة؟
أعتقد أن الإجابة على ذلك تكمن من خلال الضرورة لفهم المتغيرات الجارية بالعلاقات الدولية وصعود أقطاب دولية جديدة وتعاظم التضامن مع كفاح شعبنا من جهة، ومن جهة أخرى ضرورة اكتمال الوحدة الوطنية لكافة مكونات شعبنا على قاعدة وحدة الأرض والشعب ووحدانية تمثيل منظمة التحرير كما مفترض أن تكون جبهة وطنية عريضة والإرتقاء بدورها وتعزيز مكانتها وبناء مؤسساتها ديمقراطيا وانتخابيا باعتبار شعبنا هو مصدر السلطات، حتى لا يبقى غياب ذلك مبرراً للغرب استمرار حديثهم عن التجديد والمتجدد الذي يراد منه خدمة سياساتهم بالمنطقة وتنفيذ مشروعهم حول الشرق أوسط الجديد بأدوات متعاونة في كامل المنطقة.
هذا يتطلب الابتعاد عن أكاذيب السراب الامريكي وعن استمرار جوهر مسلسل كليلة ودمنة للحوار الوطني والمصالحة، كما والابتعاد عن مؤثرات من هنا وهناك لا تريد أن ترى شعبنا موحداً، وباعتماد برنامج وأدوات كفاحية واضحة استنادا لقدرات شعبنا وتضحياته ورؤيته الراسخة نحو الوصول إلى حقنا بتقرير مصيرنا واستقلالنا الوطني وإسقاط نظام الفصل العنصري الاستعماري.
والآن وقد تحول مضمون وشكل هذا الاحتلال الذي ظن البعض أنه يتسم بطابع الاحتلال العسكري المؤقت عام 67 وما سمي "بالنكسة"، إلى تنفيذ شمولية المشروع الصهيوني الاستيطاني والاحلالي منذ فترة طويلة، بل منذ بدايته وفق مخططات الحركة الصهيونية، فلا يمكن القبول باستمرار العلاقة التعاقدية معه وفق الاتفاقيات الموقعة والتي لم تلتزم بها دولة الاحتلال، بل وتنكرت لها واعتبرها نتنياهو لاغية منذ زمن، وإنما بضرورة صياغة هذه العلاقة على أساس كفاحي تقوم على التحرر الوطني أسوة بكل شعوب الأرض التي تحررت، وإلحاق الهزيمة بمشروعهم لاستدامة الاحتلال بأشكال مختلفة.
كما وأنني لم أعد أفهم تكرار البعض منا استخدام مصطلح "الانتهاكات " وهو تعبير يُعنى به الخروج عن المألوف أو عن المتفق عليه أو الإخلال بالقانون، وفي حال هذا الاحتلال الاستيطاني فإنه ليس كذلك. إنها جرائم يرتكبها نظام الاحتلال والابرتهايد بحق شعبنا منذ أكثر من 76 عاماً، وهو الاحتلال الذي يجسد بحد ذاته جريمة متكاملة الأركان بحق القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني والميثاق الاساسي لهيئة الأمم المتحدة ولإتفاقيات جنيف، لا يمكن لتداعياته واسقاطاته وافرازاته أن تُعتبر "انتهاكات". كما أن اعتبار هزيمة الجيوش العربية "نكسة" عام 67 كانت محاولة لإخفاء الأثر الفادح القادم من استكمال الاحتلال، وذلك قبل أن تأتي ملحمة الكرامة ليعيد الفدائيين ومقاتلين الجيش الأردني فيها جزءً من المفقود منها منذ عام 1948.
لم يكن مخطط له بأن يكون احتلال عسكري مؤقت أو أن يتسم بهذا الواقع أمام حقيقة الأمر الذي تنطبق عليه مواصفات القانون الدولي أو قوانين الحروب. فبعد 57 عاماً لم يعد مؤقتا لأغراض عسكرية، وبعد 57 عاماً يعملون لأن يكون مستداماً بوجود قرابة المليون مستوطن صهيوني أو أقل بقليل في مناطق تم احتلالها عسكرياً عام 67 يعيشون وفق نظام قانوني خاص بهم تجسيداً لنظام الابرتهايد، فيمارسون الإبادة الجماعية والتطهير العرقي حتى لا يتم وصف كيانهم على كامل أرض فلسطين التاريخية لاحقاً وفق رؤيتهم الصهيونية التوراتية بنظام فصل عنصري، بحيث يتخلصون من شعبنا إما بالقتل أو الترحيل أو التهجير ليبقى كيانهم هذا يهودي خالص وفق خطط الحسم المبكر القديمة الجديدة.
في هذه الذكرى التي تأتي اليوم في ظل ارتكاب أبشع جرائم التطهير العرقي والمحارق والإبادة والتدمير الذي يراد بها جعل غزة مكانا غير قابل للحياة كما في مخيماتنا وبكل فلسطين، يصمد أهلها بإصرار رغم التضحيات الكبيرة حتى تبقى بهم ويبقون بها قابلة للحياة والإنتصار، فهل يرتقي الكُل الوطني بالمفهوم وبالأداء إلى مستوى ذلك؟