مقالات مختارة

الصراع بين الحرية والدكتاتورية لا ينتهي | عوض سليمية

 

في الذكرى الــ 80 لإنزال النورماندي (D-Day) عام 1944، والتي كانت إحدى أسباب انتهاء الحرب العالمية الثانية بعد إلحاق الحلفاء الهزيمة بالنازيين، دشن الرئيس الأمريكي جو بايدن خطابه بمفرداته الليبرالية المعهودة والتي تُظهر الحرص الأمريكي الدائم على نشر الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان، يقول الرئيس بايدن في خطابه، إن «الصراع بين الديكتاتورية والحرية لا ينتهي». متعهداً في الوقت نفسه، بأن لا تنسحب بلاده من دعمها المتواصل لأوكرانيا، في رسالة واضحة إلى روسيا محورها، إن واشنطن ستواصل تغذية الحرب القائمة بالوكالة على الأرض الأوكرانية حتى آخر أوكراني، خدمة لمصالحها وهيمنتها، وأنها لن تسمج للرئيس بوتين الطامح للصعود على قمة الهرم العالمي من تحقيق أهدافه.

في عالم الرئيس بايدن الخاضع للمعايير المزدوجة، تختلط المعاني والمفاهيم وتتبدل القواعد والقوانين بحسب الولاء للأجندة الأمريكية. من ناحية، تُظهر الإدارة الأمريكية في "يوم النصر على النازيين" التزاما موثوقاً بدعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا –التي غاب رئيسها عن الاحتفال وحل محله زيلينسكي، عسكرياً ودبلوماسياً، وتواصل حث دول الاتحاد الأوروبي وحلفائها في الناتو والدول الصديقة، على ضرورة مواصلة الامدادات العسكرية واللوجستية للجيش الأوكراني، بما فيها صواريخ بعيدة المدى تطال العمق الروسي، إلى جانب التحريض المستمر لاتخاذ أشد التدابير الاجرائية ضد روسيا الاتحادية بما يشمل مزيداً من فرض العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية والمالية... بالتوازي، مع سعيها الدؤوب في المحافل الدولية لشيطنة موسكو ووصف رئيسها بــ "الطاغية والمستبد الراغب في تغيير القوانين الدولية السائدة". ويبرر بايدن تلك السياسات بأن، "ثمن الاستبداد غير الخاضع للرقابة هو دم الشباب والشجعان".

من ناحية أخرى، عندما يتعلق الوضع باستبداد إسرائيل غير الخاضع للرقابة واستمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية منذ العام 1948، ودم الشباب والأطفال النازف في قطاع غزة بفعل السلاح الأمريكي المتدفق على إسرائيل، لإجهاض محاولاته الهادفة إلى انتزاع حريته وحقه في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة، تغيب هذه المفاهيم، وتتعثر الكلمات على لسان السيد بايدن وأقصى ما يمكن أن يستحضره أنه بحاجة إلى "معجزة من السماء لتحريك عملية السلام".

ليس بعيدا عن مبررات رئيسه، يتفاخر كبير الدبلوماسية الأمريكية بلينكن ومستشار الرئيس بايدن الخاص للأمن القومي سوليفان، بعدم وجود أدلة كافية تشير إلى أن إسرائيل ترتكب جرائم إبادة جماعية بحق المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، على الرغم من التأكيدات الواردة في تقارير المنظمات الدولية ومنظمات حقوق الانسان وقرارات الجنائية الدولية والتدابير الاحترازية التي دعت إليها محكمة العدل الدولية، والاجماع العالمي في الأمم المتحدة، وهي نفس المنظمات التي استندت الإدارة الأمريكية إلى تقاريرها كمرجعيات موثوقة لإدانة حكومات الصين وروسيا وتجريم الرئيس بوتين واعتباره مجرم حرب مطلوبا للجنائية الدولية.

بينما «تضرع بايدن إلى الله أن لا تتكرر مآسي الغزو النازي لدول الحلفاء»، غابت عنه فلسطين ومآسيها منذ عام 1948 وما خلفه الغزو الإسرائيلي لقطاع غزة منذ أكتوبر 2023. لكنه سرعان ما استحضر روسيا على الفور، وجدد العداء لزعيمها ووصفه بــ طاغية راغب في الهيمنة. محذراً حلفائه من أن قوى الظلام التي كانت موجودة قبل ثمانون عاماً لا تتلاشى أبدًا، وأجرى مقاربة يرى أنها واقعية من وجهة نظره، بين التهديدات المستمرة التي تواجهها أوكرانيا وقتال شعبها بشجاعة أمام «الغزو» الروسي لبلادهم. يقول بايدن، «لقد تم غزو أوكرانيا من قبل طاغية عازم على الهيمنة»، وأضاف، «الأوكرانيون يقاتلون بشجاعة غير عادية... ولا يتراجعون أبداً».

في حين يشيد الرئيس بايدن بشجاعة الشعب الأوكراني في مواجهة طاغية عازم على الهيمنة وفق توصيفه، يتجاهل تضحيات وشجاعة الشعب الفلسطيني الذي لم ينثني منذ عقود في مواجهة الوحش الإسرائيلي، الذي تغذيه بلاده بالمال والسلاح حفاظا على هيمنتها، وأن السياسات الملتوية لإدارته سمحت للدكتاتوريين والمتنمرين الموالين لها على استمرار احتلال أرضنا وعاصمتنا، التي يحتفل نتنياهو وعصابته في ذكرى احتلالها هذه الأيام.

تتزامن الذكرى الثمانون ليوم النصر العظيم على النازية في النورماندي، مع الــذكرى الــ 57 للنكسة العربية عام 1967، واحتلال إسرائيل للشطر الشرقي لمدينة القدس، وإكمال احتلالها للأرض الفلسطينية– الضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان السورية. هذا العدوان المستمر من ذلك العام، يتطلب من الرئيس بايدن مزيداً من التدقيق في صياغة خطاباته المتناقضة مع مواقف بلاده، وتغيير زوايا المراقبة عند تعريفه للدكتاتورية والحرية وأوجه التناقض بينهما، ليتسنى للممارسين الحقيقيين للهيمنة على العالم وفي المقدمة منهم أمريكا أن يتعلموا من دروس التاريخ، ويبتعدوا عن تكرار الخطابات الزائفة المحشوة بالديموقراطية والحرية وحقوق الانسان.

 

الدكتور عوض سليمية

باحث في العلاقات الدولية

مدير وحدة الأبحاث والدراسات الدولية – معهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي

Loading...