كتب واصدارات

وزير إعلام الحرب (2)

 

عبد الشقي CV

 

لم يكن عبد الشقي مجرد عمّال في كفر عرب يعتمد على ظهره الذي بقوة شاحنة، بل وفّر لنفسه مهنة موازية تبدو بمقاييس الوجاهة أفضل بكثير من العتالة، وأحيانا كانت توفر له دخلا إضافيا يكفيه ويفيض عن الحاجة، إنها مهنة المناداة، ولقد حباه الله صوتا جهوريا مع قدرة على تأليف المترادفات والأهازيج، كان أهل كفر عرب يلجؤون اليه فما من سبيل لإيجاد أشيائهم الضائعة إلا نداءاته. كان وهو ينادي، يؤلّف ويلحن، ولا يعدم من يردد وراءه، فأبناء كفر عرب يعاونونه في هذه المهنة. كان يشعر بسعادة ما بعدها سعادة حين يسمع الزغاريد تنطلق من دار الذي نادى له ووجد ما ضاع منه، وكان ذلك يحدث كثيرا، بفعل تعاون أهل كفر عرب معه واستحسانهم لنداءاته ويقينهم بأن الشهامة والأمانة شرف يتسابق الخلق على الظفر به. وإلى جانب المناداة على الاشياء الضائعة، وبفعل استخدامه لجودة صوته، كان يواظب على رفع الآذان خصوصا في الشتاءات القاسية، حيث يفضل المؤذن المعين من قبل وزارة الأوقاف قضاء ساعة الصبح في الأحضان الدافئة لزوجته، مكتفيا بأجر الدنيا ومتنازلا عن أجر الآخرة لعبد الشقي. كان المؤذن البديل سعيدا بتقصير المؤذن الأصيل وإهماله لمهنته الرسمية الم يكن يرفع الآذان لقاء أجر، بل كان يحب العمل ذاته كان بصوته اللامع الوقور، يطيل التسابيح التي تسبق الآذان، ويطيل الأدعية التي تليه، إلا أن أسعد لحظات عمره كانت حين يستنكف مؤذن الأوقاف مريضا أو مدعيا المرض، فيتولى عبد الشقي عمل الإمام بالوكالة، فأحب الناس الصلاة وراءه والاستمتاع بتلاواته وأدعيته، وقد ذاع صيته كإمام فدعي لإقامة الصلاة في
مساجد الخرب المجاورة التي لم تصل اليها تعيينات وزارة الأوقاف لقد طغت مهنة الإمام والمؤدّن والمنادي على مهنة العتالة ما ساعده على نسيان مهنته الأصلية لأن التعويض عنها كان أفضل في الدنيا والآخرة، غير أن الموسم البهيج في حياة عبد الشقي والذي لا يعلو عليه أي موسم هو شهر الخير الشهر الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس. لقد جعل عبد الشقي أيامه ولياليه موسما ثقافيا بامتياز، ذلك حين صار السحور مناسبة منتظرة، كانت طبلته الرنانة تشيع فرحا في قلوب المؤمنين، وكان لا يكتفي بالنداء التقليدي " يانايم وحد الدايم" بل كان يؤلف ويلحن ويغني.. يطوف حواري وأزقة كفر عرب ووراءه حشد من الصبية يردّدون بحماسة كما لو أنهم كورس غنائي، ما حفظوا عنه، وما يسمعون منه من مقطوعات دينية وأحيانا وطنية. كان يبدأ احتفال السحور مبكرا وينهيه متأخراً. يقف تحت نوافذ الزعماء، يوقظهم بأن يناديهم بالاسم، ويسترسل في سرد مآثرهم ورفعة حسبهم ونسبهم، ولا يغادر إلى نافذة زعيم آخر إلا بعد أن يرى الضوء معلنا أن المنادى وعشية اليوم الأخير من أيام الشهر الفضيل، يؤدي طقوس السحور الرمضانية بصورة متميزة، يبدأها بعد انتهاء الصلاة، ويستمر بها إلى أن يُرفع آذان صلاة العيد. كان يعتلي سطح بئر مقام النبي نوح ليتلقى هبات وعطايا الذين أيقظهم ثلاثين سحوراً دون كلل أو ملل.

لم يكن أهل كفر عرب يعطونه من قبيل الصدقة أو رفع العتب، بل كانوا سعداء بما يمنحونه قدر ما أسعدهم بأدائه الشيّق في ليالي رمضان الأثيرة. الخلاصة كان رمضان والسحور والعيد موسماً ذهبياً في حياته، ولم يخطر بباله أن موسما آخر ربما يوازيه أو يتفوق عليه، سوف يبدأ بإعلان الحرب واعتماده وزيرا لإعلامها، وعلى الصعيد الاقتصادي فقد توفّر له دخل حكومي لم يكن ليخطر له على بال.

استيقظ الشيخ جابر أبو الجود من قيلولته توضأ، وصلى ارتدى قمبازه الروزا ناصع البياض، ولفّ حول خصره الحزام الفضي المشجر الذي شاع أنه صنع خصيصا له، في أهم فابريكة شامية بمحلّة الحريقة المجاورة لسوق الحميدية الشهير في العاصمة دمشق. كان هدية ابنه الأصغر فوّاز بمناسبة تخرجه من كلية الحقوق بالجامعة السورية. وقف أمام المرآة وثبت حطته الفوال فوق طاقيته المشبكة وتحت عقال حريري أسود لا نظير لالتماعته في كفر عرب وزمامها وارتدى حذاءه المطعمة كعوبه بحذوات نحاسية ما أن تهبط على بلاط درج البيت حتى يعرف ساكنوه بأن شيخ المشايخ وصل أو غادر. وضع العباءة السوداء الشفّافة على كتفيه. تحسّس ياقتها المطرزة بالقصب الذي بلون الذهب. مسّد شاربيه الفضيين، وألّف نظرة صقرية، واطمأن على مظهره اللائق بمكانته واستدار متجها ناحية شرفة الأقواس ليطلق نداءً كالزئير:

= طلب. وين انت؟

حاضر يا عم رد المرافق الدائم لشيخ المشايخ معلنا استعداده لتلقي أوامر سيده.

= شهّل على البدري.  حاضر يا عم. وهتف مناديا سرور ومطاوع عبد العزيز، يالله انت وياه، كل واحد يشوف شغلو.

انطلق الثلاثة كل في اتجاه، ومع أن الشمس كانت ما تزال تواصل
رحلتها المتأنية نحو البحر، والضياء ينتشر على المدى مزينا صخور كفر عرب كما لو أنها مطلية بماء الذهب، فقد صدع سرور لأمر طلب واتجه مسرعا إلى ركن قصي من أركان الساحة الفسيحة، حيث ينتصب بيت الشعر على أربع وسط، وتتجمع فيه الكهارب التي ستضيئ الساحة عند حلول الظلام كما لو أن الشمس لم تغب شرع في ملء الكهارب بالكاز، كي يضيئها الواحد تلو الآخر، وفي ساعة ستكون الكهارب العشرة معلقة على الأعمدة معلنة جاهزية ساحة الشيخ جابر لسهرة الليلة الأخيرة من الليالي السبع التي أحياها بمناسبة زفاف ابنه المحامي فواز آخر العنقود على سليلة الحسب والنسب كريمة الشيخ عبد الكريم أبو السباع، ومطاوع الذي يؤدي دور مدير السقاية في كل مناسبات آل أبو الجود، وما أكثرها من أعراس ومآتم ونجاح في المترك، ووداع حجاج واستقبالهم، ونجاح في الانتخابات النيابية وغيرها. وما بين هذه المناسبات السعيدة والحزينة فهنالك مآدب شيخ المشايخ التي تقام بمناسبة وبدون مناسبة، لمجرد إثبات أن كرم عميد آل أبو الجود ما يزال على حاله منذ قديم الزمان، وأن السنوات العجاف التي أهلكت الزرع والضرع، لم تنـل مـن عادات وخصال شيخ المشايخ.

مطاوع يملأ الأباريق الفخارية بالماء المصفى الخالي من الدود والعلق وينشرها على نحو يكون فيه الماء النظيف في متناول أيدي الساهرين، ولأن صيف هذا العام سبقه شتاء شحيح المطر، فقد تدبر أمره بصعوبة، ملأ أزياراً ضخمة بماء يكفي لإرواء ظمأ الساهرين على امتداد الليالي السبعة. كان ينقل الماء على ظهور الحمير والبغال والجمال من النزازات الشحيحة ويخزنها لهذا اليوم.

أما عبد العزيز صاحب التخصص النادر في صناعة شاي الأعراس والمناسبات السعيدة والذي لم يفصح عن سر خلطته التي تجعـل مـن شـايه ألذ مشروب يتذوّقه الساهرون ولا يكتفون منه، فقد ملأ القدر التاريخية بالماء المصفى وأهال فيه عدة أكياس من السكر، فأهل كفر عرب ينسبون الشاي إلى الحلويات فهو جيد قدر ما هو حلو أشعل النار في الموقد المقام على ثلاث لدايا ضخمة، وشرع في تجهيز خلطته السرية ووضعها في صرة من قماش الشاش والقى بها في القدر، وقبل أن يغلي الماء راح يتذوق ويترنم ويهزج بأغنية دأب الراديو على إذاعتها، أنتجت كدعاية لشاي شيخ الشريب الشهير ولم يكسف أحداً ممن طلبوا تذوق شايه المدهش حتى قبل أن يكتمل نضجه.

تطاولت الظلال ساعة انحدار شمس حزيران نحو البحر، وبدأت طلائع العتمة الفضية الداكنة تكتسح بقايا الضياء المنحسر الذي خلفته الشمس الآفلة، إذاً، فقد تهيأ كل شيء لبدء فصول السهرة الأخيرة من سهرات الليالي السبع.

بدأ القوم يتوافدون على الساحة، الوجهاء منهم جلسوا على الجوادل السميكة والمريحة والشباب وقفوا في حلقات يتداولون في أمر الحرب الوشيكة التي قد تندلع الليلة، رجّحوا هذا الاستنتاج بعد انتشار التعليمات الحكومية التي أعلنها السيد عبد الشقي، إلا أن الأخبار المؤشرة على أن الحرب لم تعد مجرد احتمال بل حقيقة مؤكدة، لم تثن الشباب عن الإحتفـاء الحـار والمتحمس بوصول حادي فلسطين محارب ذيب الذي قدم من على بعد مائة ميل من قريته جباع، إكراما للشيخ جابر. كان الحادي الشعبي الأشهر في زمانه شديد الحرص على ألا يحيي إلا أعراس الزعماء والوجهاء، من أجل البريستيج قبل الأجر المادي. استقبله الشيخ جابر وعانقه وأجلسه إلى جواره، وأجلس معه مساعده الذي يهتم بشؤون الربابة المخبئة في جرابها الجلدي، والتي تستحق موظفا خاصا لتسخينها، وشد غزالها، وتمسيد أوتارها المصنوعة من أذناب الخيل الأصيلة، ودوزنتها بعزف عشوائي لتقدم إلى فارسها جاهزة من مجاميعه فيحز القوس على الوتر، وتنطلق أول النغمات كما لو أنها ثغاء ماعز لتشتد بعد برهة وتنسجم فتلامس بعذوبتها وسلاستها الآذان والقلوب بنغم عبقري يمهد للصوت الجهوري الذي لابد وأن يبدأ القول مسيك بالخير مسيلي على أبو الجود، رجال خير بالشهامة والكرم مشهود.

 

 

لقراءة الجزء الأول من الرواية على الرابط التالي: https://www.masar.ps/ar/Article/1074

Loading...