بعد مرور ثلاث سنوات، بالتمام والكمال، من أكتوبر 1956، والعدوان الثلاثي على مصر، خصّ دافيد بن غوريون جريدة «هآرتس» الإسرائيلية، بمقابلة واسعة، قال فيها: « إن اولئك الذين يعتقدون أنه من الممكن اليوم حل القضايا التاريخية بين الشعوب، بالقوة العسكرية وحدها، لا يعرفون في أي عالم نعيش… إن كل قضية محلية أصبحت قضية دولية، ولهذا السبب فإن علاقاتنا مع شعوب العالم، ليست أقل أهمية من قوتنا العسكرية، التي يتوجب أن نستمر في تعزيزها، من أجل الردع، لمنع تعرضنا للهجمات، ومن أجل تحقيق الانتصار، إذا اضطررنا لخوض الحرب».
تعلّم بن غوريون هذا الدرس من تجربته الخاصة: حقق انتصاراً عسكرياً واضحاً، لكنه انتهى الى هزيمة سياسية أكثر وضوحاً. وبعد استمتاعه بنشوة النصر، لخمسة أشهر فقط، اضطر على الانسحاب من كل سيناء المصرية، وقطاع غزة الفلسطيني، في 1957، بقرار دولي تم التوافق عليه بين الولايات المتحدة (دوايت آيزنهاور) والاتحاد السوفييتي (نيكيتا خروتشوف).
أين إسرائيل اليوم من هذا الدرس؟ بنيامين نتنياهو، ومجموعة العنصريين الظلاميين في حكومته، والأقزام المحيطين به، وفي الأحزاب الصهيونية في المعارضة ايضاً، يرتكبون الجرائم والحماقات في مسلسل لا ينتهي، باستخدام القوة العسكرية وحدها لـ«حل القضايا التاريخية» بين إسرائيل والشعب الفلسطيني.
ما زالت كل إسرائيل، بأحزابها الصهيونية العنصرية، وبكل قياداتها العسكرية، وفي الغالبية العظمى من مفكريها وكتابها وصحافييها، غارقة في «سكرة» الانتصار المذهل الذي تحقق لها في حرب 1967، لم تكفهم «صفعة» السادس من اكتوبر 1973 المدوّية، لاستعادة رشدهم، فجاءهم «زلزال» السابع من أكتوبر 2023، وها هم يتصرفون كثور هائج على مدى أكثر من ثمانية أشهر متواصلة، ينطحون بجنون: يقتلون ويصيبون أكثر من 140 ألف فلسطيني، بعضهم ما زال مدفونين تحت الأنقاض، أكثر من ثلاثة أرباعهم من النساء والأطفال وكبار السن والمدنيين، ويعيدون، أسبوعياً أو شهرياً، احتلال وتدمير ما سبق لهم واحتلوه ودمّروه مرات ومرات.
ما زالت إسرائيل، بمجتمعها اليهودي، وبقياداتها السياسية والعسكرية، تتربع على ما تعتبره وتعتقده «قمة حرب حزيران 1967» دون أن تعي أن عدم استثمارها لنتائج تلك الحرب، والاستفادة من نصرها المدوّي ذاك، بتحويله سلّماً للتوصل إلى حل سياسي منطقي، والاحتكام الى الشرعية الدولية، والاعتراف بالحقوق العربية، وبحقوق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وبكل ما يترتب على ذلك من استحقاقات، قد حوّل تلك «القمّة» إلى درك في أسفل حفرة بالغة العمق، وجعلها في حقيقة الأمر في حاجة إلى سلّم.. لا لإنزالها من قمّة، وانّما لانتشالها من جُبّ عميق تقبع فيه منذ سنين، وتمارس حماقة متابعة الحفر لتغرق أكثر.
بجردة حساب بالغة الاختصار، يمكن لنا التأكد من تآكل جميع عناصر القوة الإسرائيلية، في السنوات القليلة الماضية، وزادت وتيرة هذا التآكل أضعافاً مضاعفة، منذ زلزال السابع من أكتوبر:
1ـ عنصر القوة العسكرية:
كشف زلزال السابع من أكتوبر زيف المبالغة في قدراتها الاستخبارية، وما تملكه من قوة ردع وتخويف جميع ضحاياها وأعدائها، وقدرتها على حسم المعارك والحرب بأسلوب الضربة الخاطفة التي تنهي المعارك خلال أيام، ولم تتعلم دروس استحالة الانتصار، في أي حرب يخوضها أي جيش نظامي في مواجهة «عصابات مسلحة» وحروب الميليشيات، تخوضها لتحقيق هدف سياسي واضح ومحدد ومشروع: التخلص من الاحتلال والاستعمار وإنجاز حقها في تقرير مصيرها.
لا يملك المقاتلون والمناضلون الفلسطينيون في قطاع غزة معسكرات ومئات الدبابات والمدرعات والطائرات الحربية، لو كان ذلك ما يملكون، لتمكنت آلة الحرب الإسرائيلية الهائلة من سحقها خلال ساعات أو ايام. لكنهم يملكون ما هو أقوى وأقدر على تحقيق الانتصار: إنهم يملكون الإرادة والحق والمشروعية.. وما تيسّر من معدّات قتالية بسيطة محلية الصنع، في غالبيتها، ويخوضون معاركهم معتمدين سياسة «عش الدبابير». ونجاح آلة الحرب الإسرائيلية الهائلة في تحطيم عش الدبابير، تجعل كل الفضاء المحيط مصائد وكمائن لدبابير تلسع قوات العدو وترهقه الى أن تهزمه. وتجعل من كل حفرة لقذيفة يطلقها العدو خندقاً لمقاتل، وتجعل من كل بناء مهدوم متراساً.
2ـ عنصر تكاتف وتكافل فئات المجتمع:
ـ حدِّث ولا حرج.. بدل التكاتف تعارض، وبدل التكافل تنابذ، بالطول وبالعرض. بدأت منذ عقود، وظهرت للعيان والملموس منذ سنوات الى أن وصلت أخيراً الى تشكيل ائتلاف حكومي هجين، مكون من أحزاب وأعضاء أفضلهم بالغ السوء، وحلفاء أكثر عنصرية وتخلفاً، ومعارضة برلمانية تماثل التحالف الحاكم سوءاً وعنصرية، وتمتاز عنه بأنها أكثر خبثاُ، وذكاءً في خداع شعوب ودول. ومثال واحد من بين مئات عديدة اخرى، ما قالته الكاتبة الصحافية المميزة، رافيت هخط، التي نشرت في «هآرتس» 31.5.2024، مقالاً عالجت فيه موضوع خروج غانتس وآيزنكوت من «مجلس الحرب» ومن حكومة نتنياهو، قالت فيه: «عندما تظهر استطلاعات الرأي مرة أخرى أن المجتمع، أو نسبة عالية منه، رئيس حكومة ذُبِح في عهده مواطنوه، واغتُصبت بناته، وخُطف اطفاله، ويستمر في القيادة، ويقود إلى نزيف عسكري، وعزلة سياسية، وأزمة اقتصادية، وينعش ثقافة الفساد والإجرام والجهل والتخلف، هو مجتمع فاسد.. مريض للغاية، بلا أدوية للعلاج، وربما بدون رغبة في الشفاء».
3ـ عنصر الانخراط في تحالفات:
ـ هنا أيضاً حدّث ولا حرج. حتى «الحلف الاستراتيجي» مع الولايات المتحدة، حامية إسرائيل من ضحاياها/أعدائها، ومن إلزامها بالامتثال للشرعية الدولية، يهتز بقوة منذ أشهر، واصبحت نسبة مرتفعة، (أكثر من نصف مناصري الحزب الديمقراطي هناك) ونسبة تتزايد في الحزب الجمهوري، تنتقد وتدين السياسات والممارسات الإسرائيلية.
4 ـ عنصر صورة إسرائيل كـ«واحة الديمقراطية في وسط صحراء الديكتاتورية في الشرق الأوسط» لم تعد على ما كانت عليه منذ إعلان إقامتها قبل ثلاثة أرباع القرن، وانقلبت الى عكسها تماماً في فترة زمنية قياسية.
5ـ عنصر تحول إسرائيل إلى «دولة منبوذة»:
قد تستدعي الحاجة التوسع في الكلام عن هذا الموضوع، ولكننا نُرجئ ذلك إلى وقت لاحق. ونكتفي بالإشارة هنا الى أن مسلسل الجرائم الإسرائيلية في الأشهر الثمانية الماضية، منذ بدء حربها الإجرامية على غزة وأهلها والحياة فيها، إثر زلزال السابع من اكتوبر، أدخلها الى النادي الدولي المُشين نادي «الدول المنبوذة». هذا النادي المشين، يضم، حتى الآن، حسب «غوغل» 13 دولة، و«نجحت» إسرائيل، في زمن قياسي، احتلال المرتبة الخامسة فيه، ولا يسبقها في الإدانة والإهانة والنّبذ إلا أربع دول، هي أفغانستان، روسيا البيضاء، غينيا الإستوائية وإريتريا. ليس «غوغل» وإدارته رمز العدل والمصداقية في العالم، لكن لوضع غوغل إسرائيل في هذه القائمة معاني وأبعادا ودلالات ومؤشرات الى مستقبل إسرائيل، دون أن ننسى أنها اصلاً دولة لا مستقبل لها، مستذكرين قول الراحل الفلسطيني، إميل حبيبي: «هاي الدولة مش بنت معيشة».