عُمق أزمات إسرائيل وأثرها على تطور الأحداث القادمة

رغم استمرار بشاعة عدوان الإبادة على شعبنا وتداعياته المختلفة، فإن دولة الاحتلال الإسرائيلي تشهد تصاعد أزماتها ذات الأوجه المتعددة، وهي تعيش مدة من التوتر السياسي والأمني والاجتماعي والاقتصادي غير المسبوق بعد أحداث السابع من أكتوبر حتى الآن، والتي أدت إلى تصاعد الانتقادات والمظاهرات ضد حكومة بنيامين نتنياهو. وفي وصفة للحالة القائمة قال إيهود براك الذي يُعد من أهم جنرالات جيشهم ورئيساً سابقاً للوزراء، "اليوم دولة إسرائيل أمام خطر أزمة وجودية في تاريخها، نحن نتحدث عن حرب تحولت من تهديد وجود وفق التقييم الإسرائيلي إلى أزمة وجودية بسبب محركات السياسة الإسرائيلية". في هذا المقال، سأحاول نقاش تأثير هذه التوترات على السياسة الإسرائيلية ومستقبلها.

فعلى صعيد الأوضاع الداخلية والتحديات السياسية، يواجه نتنياهو وحكومته ضغوطاً كبيرة من الداخل. فالمجتمع الإسرائيلي ما بعد السابع من أكتوبر لا يشبه بتاتاً المجتمع الإسرائيلي الذي كان ما قبل السابع من أكتوبر. نتنياهو ما زال يتعامل معه في ذات المعتقدات وذات التكتيكات والاستراتيجيات التي تعامل معها فيما ما قبل السابع من أكتوبر. تتجلى هذه الضغوط في الخلافات العميقة داخل الائتلاف الحكومي خاصة مع شركائه من اليمين الديني المتطرف. هذه الخلافات تتعلق بالسياسات الأمنية والتشريعات القانونية، حيث تطالب الأحزاب الصهيونية الدينية بمزيد من التشدد في التعامل مع القضايا الأمنية، بينما يسعى نتنياهو إلى تحقيق توازن يحافظ على استقرار الحكومة واستمرار العدوان ضد شعبنا. هذا التوتر يضعف من تماسك الائتلاف ويجعل من الصعب تحقيق أي تقدم حقيقي في السياسات ذات الشأن الداخلي بدولة الاحتلال.

وتشير أحدث استطلاعات الرأي إلى تراجع الدعم الشعبي لحكومة نتنياهو، حيث يعكس هذا التراجع حالة من عدم الرضا العام عن أداء الحكومة، خاصة فيما يتعلق بالتعامل مع الأزمات الأمنية والاقتصادية. على الجانب الآخر، تزداد شعبية أحزاب المعارضة وخاصة تلك التي يقودها الجنرالات السابقون مثل بيني غانتس وآيزنكوت. هذا التحول في الدعم الشعبي يعكس رغبة متزايدة في تغيير القيادة السياسية وإيجاد حلول جديدة للأزمات التي تعيشها مجتمعاتهم.

ومن جانب آخر تواجه إسرائيل ضغوطاً دولية متزايدة لتحقيق وقف للنار والوصول لحل سياسي يتعلق بما يسمونه "باليوم التالي" ينهي عدوانها في غزة تحديداً ويصل إلى صفقة تبادل ووضوح مستقبل غزة. الأمر الذي لا يمكن بالنسبة لنا إلا أن يكون سوى جزء من الحل السياسي الشامل لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية على قاعدة وحدة الارض والشعب، رغم اتساع العدوان في كل فلسطين. في الوقت نفسه تستمر جرائمها وعملياتها العسكرية، مما يزيد من تداعياتها الداخلية والخارجية. فجيش الاحتلال الإسرائيلي يواجه انتقادات داخلية بشأن فعالية العمليات العسكرية والتكلفة البشرية العالية التي تتزايد بالفترة الاخيرة لم يعتاد عليها سابقاً على الرغم من النجاحات التكتيكية التي يدعونها هم والمتلخصة بالجرائم المرتكبة من تحقيق الإبادة الجماعية. إلا أن الجيش لم يحقق بعد أهدافه الاستراتيجية التي أعلنتها حكومته منذ البداية، مما يزيد من الضغوط على حكومة نتنياهو. وعلى الصعيد الدولي تزداد حدة الانتقادات من دول مختلفة وتتصاعد حركة احتجاج الشعوب في دول العالم ودعوات المقاطعة الجادة، وتقف دولة الاحتلال التي تعاني العزلة الدولية إلى حد كبير أمام القضاء الدولي الذي من المنتظر أن يصدر عنه خلال أيام أوامر توقيف بحق قادة إسرائيليين من بينهم نتنياهو وجالانت، ما يعتبر حدثاً غير مسبوق في تاريخ كيانهم الذي يجسد اليوم معاني النظام المارق.

من الجانب الآخر، فإنه من المحتمل أن يكون هناك تصعيد محدود بين إسرائيل وحزب الله دون تدخل كبير من القوى الكبرى. هذا قد يشمل تبادلاً مكثفاً للنيران عبر الحدود ولكن دون تحول إلى حرب شاملة بهدف إبعاد اللبناني إلى شمال الليطاني. أما إذا تصاعد العدوان على لبنان بشكل كبير، فقد تتدخل إيران وروسيا بشكل غير مباشر من خلال دعم حزب الله أو الضغط الدبلوماسي والتحركات الدولية. تركيا قد تتدخل إذا رأت فرصة لتعزيز مصالحها أو رداً على تهديدات مباشرة، أو لربما لتحقيق أهدافها من الخلاف بالجزيرة القبرصية التي تستضيف قواعد عسكرية إسرائيلية على أراضيها.

سيناريوهات المستقبل واحتمالات التغيير السياسي

إذا فشلت حكومة نتنياهو في تحقيق استقرار داخلي أو نجاح عسكري حاسم يتفق والأهداف المعلنة، فإن ذلك قد يؤدي إلى دعوات متزايدة لإجراء انتخابات جديدة أو لتشكيل حكومة بديلة. يمكن أن تقود هذه التحولات السياسية شخصيات من الجيش أو المعارضة الصهيونية الليبرالية، مما يغير محركات السياسة الإسرائيلية بشكل جذري. السيناريو المحتمل يتضمن تشكيل ائتلاف جديد يضم عناصر من مؤسستهم الأمنية والسياسيين من المعسكر الصهيوني الليبرالي، وهذا قد يكون بمثابة تغيير جوهري في نهج القيادة والسياسات المتبعة والتي ما زالت تجمع على رفض الوصول إلى تسوية سياسية للصراع يقوم على الاعتراف والحقوق الوطنية لشعبنا وبالمقدمة منها حق تقرير المصير.

وتشهد دولة الاحتلال حالة من الغليان في مجتمعاتها المتباينة أصلاً، حيث يطالب العديد منهم اليوم بإنهاء الحرب لإطلاق سراح أسراهم وللتخفيف من حدة التداعيات المختلفة كازدياد الهجرة الخارجية المعاكسة وتردي الأوضاع الاقتصادية وانسحاب العديد من الشركات العالمية من أسواقهم كما وعدم تمكن سكان المدن والقرى بالشمال والجنوب من العودة إلى بيوتهم، إضافة إلى مطالبتهم بتحقيق إصلاحات سياسية جوهرية بنظامهم. المظاهرات المستمرة تعكس حالة من الاستياء العميق تجاه الحكومة الحالية وسياساتها، ومظاهر القلق تتزايد لتتحول من أزمات سياسية وأمنية إلى صراعات أعمق داخل المجتمع الإسرائيلي غير المتجانس، مما قد يفاقم من الوضع الحالي ويؤدي إلى تصاعد العنف والانقسام مما سيكون له آثارٌ اجتماعية مختلفة تنعكس على البعد الوجودي.

دور الجيش والمؤسسات الأمنية.

جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي لا يزال يحتفظ بثقة جزء كبير من جمهورهم، يلعب دوراً حاسماً في المشهد السياسي الحالي. فتصريحات المسؤولين العسكريين وانتقاداتهم لنتنياهو تعكس مدى التوتر بين القيادة السياسية والعسكرية. الجيش قد يضغط من أجل تغيير في السياسات أو حتى في القيادة، وهو ما يمكن أن يكون له تأثير كبير على مستقبل نتنياهو السياسي، خاصة في ظل هذه الأوضاع حيث يصبح الجيش ليس فقط لاعباً في ساحة القتال بل أيضاً عنصراً رئيسياً في التوازن السياسي الداخلي بدولة الاحتلال ومشاركاً بالقرار السياسي، وهذا ما تؤيده الإدارة الأمريكية حالياً، لخدمة مشروعها بالمنطقة.

والآن وبعد تسعة أشهر من حرب الإبادة، فأننا نجد أن قادة الاحتلال الإسرائيلي يضطرون إلى قول عدة حقائق أمام الجمهور الإسرائيلي، فبالإضافة إلى تصريحات واعترافات عدد من قياداتهم حول حقيقة الأوضاع، يخرج الناطق بإسم جيش الاحتلال هيجاري ليقول بأن "حماس هي فكرة ولا يمكن القضاء عليها"، وتصريحات اللواء في الاحتياط دان هرئيل نائب رئيس الأركان سابقاً، "لا يمكن محو حماس"، لتعكس أقوالهم واقعاً معقداً ومتعدد الأبعاد بشأن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.

تصريحاتهم هذه تشير إلى واقع تصاعد الأزمات التي تعيشها دولة الاحتلال. وكأنهم يقولون برأيي، أن الحلول العسكرية وحدها لن تكون كافية للقضاء على الفكرة التي تمثلها حماس والمقاومة، بل يجب أن تكون هناك مقاربات سياسية واجتماعية واقتصادية متكاملة لمعالجة جذور الصراع، الذي لا يتحدثون عنه بشمولية واقع استمرار الاحتلال. تصريحاتهم هذه تعكس واقع الحال وشكل الخلاف والأزمة بين نتنياهو ومؤسستهم الأمنية، وقد تفتح الباب أمام تفكير جديد قد يسهم في السعي لرؤية مختلفة لطبيعة مجريات الأحداث القادمة التي قد تسعى لها الإدارة الأمريكية والمعارضة الإسرائيلية بتجسيد إقامة ما تحدثت عنه في مقالي السابق نحو إيجاد كيانين لقتل مبدأ إقامة الدولة المتواصلة ذات السيادة والمشروع الوطني التحرري، وهذا ما يندرج أيضاً من خلال الضغوطات والعقوبات التي تمارس بالقدس والضفة الغربية من أجل القضاء على كيان منظمة التحرير ومحاولة فرض الأجندات الأمريكية عليها، الأمر الذي يتطلب الحزم والوحدة واستنهاض دور المنظمة والحركة الوطنية لمواجهته.


 

Loading...