لم تكن حرب إسرائيل ضدّ فلسطينيي غزة فريدة من نوعها، فهي كحرب إبادة انبثقت من صلب عقيدتها الأمنية القائمة على "الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر"، واعتباره بمثابة قدس الأقداس للإسرائيليين، و"بوتقة الصهر" الأمثل لهم لتعزيز وحدتهم الداخلية، وشدّ عصبيّتهم إزاء الخارج الذي يرونه في إدراكاتهم المبطنة بمثابة خطر وجودي عليهم وعلى دولتهم. من هنا تأسست عقيدة ذلك الجيش القائمة على الردع، واعتماد الهجوم بدلاً من الدفاع، واستراتيجية "الجدار الحديدي" و"السور والقلعة". وهو ما كان عبّر عنه بنيامين نتنياهو صراحة، وبشكل مبكر، بقوله: "في نهاية المطاف لن يكون هناك من مفرّ سوى إغلاق دولة إسرائيل من كل جوانبها". (يديعوت أحرونوت، 11 كانون الثاني (يناير) 2010).
وتنطلق إسرائيل في حرب الإبادة تلك، كما في أي حرب قامت بها، من اعتبارها حرباً أخلاقية، وحرباً ضرورية للدفاع عن نفسها، إذ تعتبر ذاتها الضحية الوحيدة، والتي يحق لها استخدام كل قوتها، من دون اعتبار لأية معايير أو قوانين.
هكذا، ففي حروبها الخمس ضدّ فلسطينيي غزة، حتى قبل هجوم "حماس" في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، ظلت إسرائيل تعتبر نفسها في حرب دفاعية، بادعاء أنها غادرت غزة، وفكّكت مستوطناتها فيها (2005)، وأنها تردّ على القصف الصاروخي منها، متناسية أنها تحاصرها منذ 17 عاماً، وأن الفلسطينيين فيها جزء من الشعب الفلسطيني الذين قامت على حسابهم (1948)، وأن اللاجئين يشكّلون ثلثي عدد سكانها، إضافة إلى تناسيها أنها تحتل الضفة والقطاع منذ عام 1967، علماً أن لا تناسب البتة بين مستوى التدمير والقتل الذي يلحقه صاروخ إسرائيلي واحد، مقابل المئات من صواريخ "حماس".
أيضاً، إبان الانتفاضة الثانية (2000 - 2004)، رفعت إسرائيل شعار "دعوا الجيش يعمل.. دعوه ينتصر"، الذي طُرح في أثناء حملتي "السور الواقي" (آذار (مارس) 2002) و"الطريق الحازم" (2003)، التي تمّ خلالهما ترويع الفلسطينيين، وتدفيعهم ثمن العمليات المسلحة، ومعاودة احتلال مناطق السلطة في الضفة الغربية وتقويض بني المقاومة فيها.
في ذات الإطار، تصرّفت إسرائيل على ذات النحو في حربها في لبنان (تموز (يوليو) 2006)، بحيث صاغت فيها ما أسمي بـ "عقيدة الضاحية"، إذ نجم عن تلك الحرب تدمير أجزاء كبيرة من الضاحية الجنوبية لبيروت، وعشرات القرى في جنوب لبنان.
إضافة إلى كل ما تقدّم، فإن إسرائيل تدّعي أنها تخوض حربها ضدّ الفلسطينيين، في الضفة وغزة، باعتبارها جزءاً من حرب أكبر ضدّ أعدائها في الخارج. وهي تعتبر حربها الحالية في غزة جزءاً من الحرب ضدّ نفوذ إيران الإقليمي، وضدّ التطرف، لخلط الأوراق، وأيضاً، لطمس مكانتها وطبيعتها كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية وعدوانية ضدّ الفلسطينيين، في الضفة كما في غزة.
قد تفيد العودة إلى الحروب السابقة، أيضاً، للتأكّد من أن طروحات إسرائيل الحالية هي ذاتها في السابق، أي هي جزء من عقيدة. مثلاً، هذا دان شيفنون، رئيس مركز أبحاث الأمن القومي في جامعة حيفا، يقول: "ليست حماس، ولا غزة، ولا القسام أهداف الحرب ومعيار نجاحها. في غزة، نحن نحارب للبت بمصير التطرّف في المنطقة وأسطورة المقاومة... إن خراب غزة يساهم في منع الحرب مع لبنان وسوريا، ويساعد مصر والأردن في مكافحة العناصر المتطرفة، ويعطي إشارة لإيران حول حدود ضبط النفس الإسرائيلي" (يديعوت أحرونوت، 15 كانون الثاني (يناير) 2009). وفي الحرب الأولى على غزة (2008-2009)، كتب أري شيفط أن تلك الحرب "لم تكن حرباً إسرائيلية – فلسطينية، بل كانت حرباً بين حلف المعتدلين في الشرق الأوسط ومحور المتطرفين" (يديعوت أحرونوت، 14 كانون الثاني (يناير) 2009).
بيد أن فكرة الردع، أو فكرة "السور والقلعة"، أو فكرة التفوق الاستراتيجي لإسرائيل على محيطها، و"الجدار الحديدي"، لا تتعلق بنتنياهو وسموتريتش وبن غفير، وأوساط اليمين الديني والقومي المتطرف، فقط، بل تشمل، أيضاً، معسكر الوسط، إذ شهدنا أن الجنرال بيني غانتس، زعيم تكتل "معسكر الدولة" (12 مقعداً في الكنيست) والذي يُحسب على المعارضة، والذي قدّم استقالته من "الكابينت" الأمني مؤخّرا، صرّح بأنه يعترض على كيفية إدارة نتنياهو الحرب، وأن وجهة نظره استمرار الحرب في الجنوب أي في رفح، من دون توقف، كما أكّد على أن حرب إسرائيل في غزة ستستمر سنوات؛ ما يفيد بأن خلافه مع نتنياهو ثانوي، فضلاً عن طابعه الشخصي.
أما الجنرال غادي أيزنكوت، وهو الشخص الثاني الذي استقال مع غانتس (من معسكر الدولة)، وكان شغل منصب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي (2015-2019)، فهو يتبنّى عقيدة "الجدار الحديدي" التي صاغها زئيف جابوتنسكي، زعيم "التيار التنقيحي" في الحركة الصهيونية، في عشرينيات القرن الفائت، وتبنّاها بعده بن غوريون، ومفادها خلق قناعة لدى الفلسطينيين بعدم جدوى التجرؤ على إسرائيل، من خلال تدفيعهم ثمناً باهظاً يجعلهم في ما بعد يحجمون عن مهاجمتها.
ولعلّ أبلغ توضيح لتلك الاستراتيجية، أو العقيدة العسكرية، عبّر عنها البروفيسور مارتين فان- كرفيلد، أستاذ الدراسات العسكرية في كلية التاريخ في الجامعة العبرية، وأحد كبار المتخصصين في الاستراتيجية العسكرية، بدعوته إلى توجيه ضربة قاسية للفلسطينيين للانفصال نهائياً عنهم: "لا جسور مفتوحة ولا علاقات اقتصادية ولا سياسية. فصل مطلق على مدار جيل أو جيلين، أو وفقاً لما يحتاجه الأمر، لإعادة ميزان الردع. هذه الأمور يجب أن ننفّذها بسرعة مطلقة وبقوة من دون أن نتأسف. أنا في هذه الحالة سأستعمل المدفعية وليس الطيران، لأنني أريد أن أنظر إليهم في عيونهم، إذ لا فائدة من هذه الحملة إن لم تبرهن بأعمالك أنك يمكن أن تفعل كل شيء. علينا أن نضربهم بكل ما أوتينا من قوة حتى لا نعود إلى ذلك وحتى لا يهاجموننا من الخلف عند خروجنا، علينا أن نضرب بكل قوة وقسوة بحيث لا نحتاج إلى ضربة ثانية. من الأفضل جريمة واحدة وثقيلة نخرج بعدها ونغلق الأبواب من خلفنا" (إمتساع حضيرة، 8 آذار (مارس) 2002).
هكذا رأى أورن يفتاحئيل، أستاذ الجغرافيا السياسية في جامعة بن غوريون، هذه الحرب "استمراراً للمشروع والسلوك الإقليمي الإسرائيلي الذي تبنّى هدفاً متشدّداً ووحشياً يتمثل في إسكات الزمن الفلسطيني، أي محو التاريخ الكامل لهذه البلاد. وإسكات التاريخ يشكّل أيضاً محواً للمكان الفلسطيني ومعه الحقوق السياسية الكاملة. الغزو ليس محاولة لإسقاط حكومة "حماس" فحسب، وليس مسعى إمبريالياً (إسرائيلياً - أميركياً) للسيطرة، بل هو كل هذه الأمور" (المشهد الإسرائيلي، 18 كانون الثاني (يناير) 2009).
الفكرة أنّ ثمة حدوداً للقوة لأية دولة في العالم، فكيف إذا كانت بحجم ووضع إسرائيل، وأن لا حل عسكرياً فحسب لقضايا تاريخية، وأن وجود إسرائيل بوصفها "غيتو" في المنطقة، لن يُظهرها إلّا كعبء على العالم، مادياً وسياسياً وأمنياً وأخلاقياً، وهو ما يحصل الآن.