كل العالم. كان قد أخذ علماً. انه وفي ذلك اليوم 11 فبراير 1990. وفي تمام الساعة الرابعة عصراً.. سيتم الإفراج عن نيلسون مانديلا أشهر وأقدم سجين سياسي في ذلك العصر.
في سجن النقب الصحراوي عرف السجناء الفلسطينيون ذلك الخبر، وبالطبع سيرون هذا بعين مختلفة عن عين الجميع. فهم يعرفون بالضبط ماذا يعني مشوار سبعٍ وعشرين عاماً في الاعتقال.
هناك وفي ساحات المعتقل الخمسة عشر. وعلى تمام الوقت الذي تترقب فيه كاميرات الصحافة العالمية لحظة خروج الزعيم من بوابة سجنه إلى الحرية. وقف أكثر من ثلاثة الآف معتقل صامتين لمدة سبع وعشرين دقيقه. احتراماً للزعيم .
ذلك الصمت الطويل أدهش حراس السجن من الجنود الإسرائيليين على أبواب أقسام السجن وأبراج المراقبة، لقد عرفوا ما الأمر.. كانوا ينظرون فقط ولم يستطيعوا الوقوف مثل المعتقلين، ربما لأنهم فهموا أنهم يشبهون أعداء مانديلا. فلمن سيقفون إذن... فقط أطالوا النظر فينا وهم صامتون .
سماء سجن النقب لن تنسى تلك اللحظة الكثيفة.. فمهما طال الطريق.. سيظهر أن له نهاية.. كانت لحظة فيها وميض الأمل.
اليوم.. هي نفسها بلد الزعيم مانديلا تذهب إلى حيث لم يستطع أي بلد الذهاب، فلقد قرر الرئيس الجنوب إفريقي سيريل رامافوزا اللجوء إلى محكمة لاهاي الدولية... وقد صرح أنه لم يشعر بفخر كما شعر في هذا اليوم الذي جلب فيه (إسرائيل) إلى قاعة هذه المحكمة كمتهم في جريمة الإبادة العرقية.. (إسرائيل) ستقف هناك وقد أصابتها الدهشة مرة أخرى وعلى مرأى من العالم الذي بات يعرف حقيقتها.. ويرى الدماء على يديها...
تماماً مثل حراس السجن المندهشين في سجن النقب لحظة انعتاق الزعيم مانديلا..
لا يوجد أبلغ من أن تتقدم جنوب إفريقيا وليس غيرها من الدول لترفع هذه القضية أمام محكمة لاهاي، وقد اعتلى وجهها آثار الكي بالنار من زمن (الابرتهايد).. فمن سيستطيع أن لا يصدقها.. إن تقدمت وقالت شيئا عن فلسطين ومأساة شعبها..
لقد كان حدثاً تاريخياً مؤسساً لمرحلة جديدة في وعي الشعوب وكذلك في الوعي الإسرائيلي عن سؤال العدالة التي حضرت اخيراً، وقد أدمت ضمير العالم الذي تأخر كثيراً في النظر إلى وجه فلسطين المهيب.
كل الباحثين عن الحرية في العالم.. لهم نفس الملامح... في هذا اليوم ...نظرت إلى صورة جمعت يوماً ياسر عرفات ومانديلا... دققت النظر فلم أستطع أن أميز بينهما. مَن مِنْ مَن...؟