يقاوم اللبنانيون بالفرح الظلم المتمثّل بربط بلدهم بحرب غزّة، وهو ظلم ليس بعده ظلم. بل هو جريمة موصوفة في غياب أيّ أفق سياسي لهذا الربط باستثناء تكريس لبنان ورقة إيرانيّة لا أكثر في ظلّ ظروف إقليمية ودوليّة في غاية التعقيد.
يقاوم لبنان “الوضع الخطير” الذي يواجهه على طريقته، علماً أنّ هناك بين اللبنانيين من يعتبر أنّ سيناريو الإتيان بعمرو دياب والسماح بنشاطات فنّية أخرى في مناطق مختلفة ليس بعيداً عن توجّه الحزب. يريد الحزب القول إنّه مسموح بمثل هذه الحفلات وإنّ في استطاعة لبنان العيش في ظلّ ثقافتين متناقضتين ما دامت القرارات المهمّة والأساسية في يده وحده.
يقاوم لبنانُ “المقاومةَ” بالفرح. وذلك على الرغم من أن لا فائدة تذكر من هذه المقاومة في غياب جبهة سياسية متراصّة ذات رؤية سياسية واضحة تواجه عمليّة جرّه إلى الهاوية. هذه عمليّة يقودها الحزب الذي فتح جبهة الجنوب لأسباب أكثر من معروفة لا علاقة لها من قريب أو بعيد بمصلحة لبنان واللبنانيين.
لم يكن هذا الحضور الكثيف، بأكثريّة نسائية، للحفلة الغنائية التي أحياها أخيراً المغنّي المصري المعروف عمرو دياب في الواجهة البحريّة لبيروت سوى فعل مقاومة مارسه لبنانيون من كلّ الطوائف والمذاهب والمناطق. شمل ذلك مواطنين جنوبيّين. لا شكّ أنّ هؤلاء يتساءلون ما ذنبهم كي تدمّر إسرائيل كلّ هذه القرى والبلدات الجنوبيّة وتهجّر أهلها.
ليس الموضوع موضوع المغنّي المصري الذي جاء مرّة أخرى إلى بيروت وأدّى وصلته في ظلّ إعجاب شديد، من آلاف اللبنانيات خصوصاً. يبدو الموضوع موضوع تعبير عن تمسّك الأكثرية الساحقة من اللبنانيين بثقافة الحياة التي كانت بيروت دائماً بمنزلة رمز لها. نعم، يبدو الموضوع أبعد من حفلة غنائيّة بدا واضحاً أنّ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي يشجّع عليها وإن بحياء وخفر.
لا شكّ أن استقبال نجيب ميقاتي للمغنّي المصري كان خطوة شجاعة، وإن خجولة، هدفها القول إنّ في الإمكان التمييز، من وقت لآخر، بين حكومة تصريف الأعمال من جهة والحزب من جهة أخرى… وإنّ سيطرة الحزب على الحكومة ليست بنسبة مئة في المئة كما يظهر في مناسبات معيّنة، خصوصاً لدى الكلام عن القرار 1701.
الخطاب الرسمي اللبناني من نوع المضحك المبكي، خصوصاً لدى تجاهله أنّ الحزب بادر إلى فتح جبهة الجنوب في الثامن من تشرين الأول الماضي من جهة، وأنّ الحزب رفض من جهة أخرى تنفيذ القرار 1701.
في حفلة الواجهة البحريّة لبيروت، أراد اللبنانيون بكلّ بساطة التعبير عن رغبتهم في استعادة الفرح وعن رفضهم لما يمارسه الحزب في الجنوب الذي يعاني الآن من إصرار على تحويله إلى مجرّد “ساحة”. سيدفع الجنوبيون غالياً ثمن ذلك بعدما نعموا بسنوات طويلة من الهدوء النسبي، طبعاً، مع صدور القرار 1701 الذي وضع حدّاً للعمليات العدائية المتبادلة صيف عام 2006. لم يعنِ القرار يوماً، بالنسبة إلى الحزب، أنّه وُجد ليكون حجر الأساس لهدنة دائمة على غرار ما كان عليه اتفاق الهدنة بين لبنان وإسرائيل في عام 1949، وهو اتفاق يرفض اللبنانيون، في معظمهم، الاعتراف بأنّه لم يعد موجوداً. لم يعد موجوداً منذ قرّر لبنان، في خريف عام 1969، توقيع اتفاق القاهرة والتخلّي عن سيادته على جزء من أرضه لمنظمة التحرير الفلسطينيّة والفصائل الفلسطينية المسلّحة ذات المشارب المختلفة. يتّجه لبنان حالياً إلى الترحّم على القرار 1701، على غرار ترحّمه على اتفاق الهدنة!
يفرض الإقبال والحضور الكبيران لحفلة عمرو دياب حصول خطوة أخرى. ثمّة حاجة إلى ترجمة سياسية لهذا الإقبال ولهذا الحضور. تتمثّل هذه الخطوة في امتلاك السياسيين اللبنانيين، خصوصاً أولئك النواب الذين يسمّون أنفسهم “تغييريّين”، شجاعة التخلّص من عِقدهم والبدء فوراً ببحث جدّيّ في كيفية تشكيل جبهة عريضة تحت شعار رفض التبعيّة لإيران.
تعتقد “الجمهوريّة الإسلاميّة”، التي تريد استباق عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، أنّ الوقت مناسب لتكريس دورها على الصعيد الإقليمي والحصول على اعتراف أميركي بهذا الدور. ليس صدفة اعتماد “الجمهوريّة الإسلاميّة” التصعيد على كلّ الجبهات في وقت تبدو إدارة جو بايدن مصابة بكلّ أنواع الحيرة، خصوصاً في ما يخصّ كيفية التعاطي مع وحشيّة بنيامين نتنياهو الذاهب قريباً إلى الكونغرس لتحدّي الرئيس الأميركي في عقر داره.
لم يأتِ تصعيد الحوثيين في البحر الأحمر من فراغ، كذلك الأمر بالنسبة إلى كشف الحزب، عبر نوّاب له ووسائله الإعلاميّة، رفضه لأيّ ترتيبات على طول الحدود مع إسرائيل، بما في ذلك تلك التي تقترحها فرنسا أو المبعوث الأميركي آموس هوكستين.
لا يزال القرار 1701، القابل للتطوير نحو الأفضل ونحو مزيد من الفعّاليّة، في صلب هذه الترتيبات التي تمثّل فرصة أخيرة للبنان الذي يرفض أن يموت.
معظم اللبنانيين، بمن في ذلك أولئك الذين حضروا حفلة عمرو دياب، يمتلكون رسالة مقاومة عنوانها الفرح. فحوى الرسالة أنّ المقاومة المتمسّكة بثقافة الحياة لم تمُت بعد، وهي في مواجهة مع ما يُسمّى “المقاومة” التي ليست سوى وسيلة لتدمير البلد ونشر البؤس فيه وتهجير أهله.
أكثر من ذلك، إنّ بيروت التي أعاد رفيق الحريري الحياة لها ترفض الموت وترفض أن تكون ضحيّة أخرى للمشروع التوسّعي الإيراني الذي قضى على العراق وسوريا وجزء من اليمن… وهو في صدد استكمال القضاء على لبنان انطلاقاً من جنوبه.