«الكبار يموتون… والصغار ينسون».. قولة ديفيد بن غوريون مؤسس دولة إسرائيل لم تبد زائفة كما تبدو اليوم، ليس فقط لأن أبناء الكبار من الفلسطينيين الذين عاشوا نكبة عام 1948 لم ينسوا أبدا، ولا حتى أحفادهم، بل لأن أطفال غزة اليوم لن ينسوا أبدا ولن يغفروا.
كيف لهؤلاء أن ينسوا وأكثر من 3.500 من بينهم دون سن الخامسة معرضون لخطر الموت التدريجي في قطاع غزة بسبب سياسة الاحتلال الإسرائيلي في تجويعهم وحرمانهم من الحليب والغذاء والتطعيمات، ومنع إدخال المساعدات الإنسانية (..) كما أنهم باتوا يفتقرون إلى الوصول للخدمات الأساسية مثل الغذاء والرعاية الصحية والمتابعة الطبية الدورية، وفق ما كشفه مؤخرا مكتب الاتصال الحكومي في غزة.
كيف لهؤلاء الأطفال أن ينسوا وقد عاشوا طوال هذه الأشهر التسعة الرهيبة الموت والدمار والدماء حتى أصبحوا باتوا في حاجة ماسة «إلى رعاية نفسية متقدمة» بعد أن استشهد منهم خلال حرب الإبادة الجماعية الحالية (15.438) كما أصيب عشرات الآلاف، وبات أكثر من (17.000) منهم يعيشون دون أحد والديهم أو كليهما» وفق نفس التقرير الصادر في الأسبوع الأول من الشهر، الحالي.
كيف لأطفال غزة البالغ عددهم 335.000، وقد عاشوا كل ما عاشوه، أن ينسوا مرارة اليتم وصدمة موت الأهل والرفاق والجيران والمعلمين، وكيف لهم أن ينسوا أن عدد الذين رحلوا من بينهم في هذه الحرب المستمرة تجاوز مجموع عددَ الأطفال الذين قتلوا خلال 4 سنوات من النزاعات في جميع أنحاء العالم، كما أعلن ذلك منتصف مارس/ آذار الماضي فيليب لازاريني المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) مستندا إلى أرقام الأمم المتحدة التي تظهر أن 12 ألفا و193 طفلا قتلوا في نزاعات حول العالم بين عامي 2019 و2022.
كيف لهؤلاء الأطفال في غزة أن ينسوا أن نحو 600 ألف منهم ممن بقي في مدينة رفح، أو نزح إليها ظنا أنها مكان آمن، أجبر معظمهم على مغادرتها هائمين على وجوههم مع عائلاتهم، أو ربما بمفردهم، عدا ما وثقته «يونيسيف» في أبريل/ نيسان الماضي من أوضاع كارثية في هذه المدينة من بينها فقدان مئات آلاف الأطفال وعائلاتهم منازلهم بعد تسويتها بالأرض فأصبحوا مرغمين على العيش في خيام وسط ظروف صعبة للغاية مع تواصل تجويعهم بسب عدم دخول المساعدات الإنسانية.
كيف لأطفال غزة أن ينسوا أن ما لا يقل عن 10 أطفال يفقدون سيقانهم كل يوم في القطاع حسب ما نشرته منظمة «إنقاذ الطفولة» بداية العام، وهو رقم بالتأكيد ازداد سوءا مع استمرار الحرب، وأن 1000 طفل في غزة فقدوا حتى ذلك التاريخ إحدى ساقيهم أو كلتيهما منذ بداية الهجمات الإسرائيلية، ولم يمض عليها وقتها سوى ثلاثة أشهر فما بالك بالوضع الآن. وقد كانت المنظمة قالت كذلك إن معظم العمليات الجراحية التي أجريت للأطفال وقتها تمت دون تخدير مما حدا بمنسق شؤون المنظمة في فلسطين «جيسون لي» إلى الجزم بأن «معاناة الأطفال في هذا الصراع لا يمكن تصورها».
كيف لكل هؤلاء الأطفال الفلسطينيين في غزة، الذين عجّت مواقع التواصل بقصصهم وعذاباتهم المختلفة والذين اختطفت منهم براءتهم فكبروا قبل الأوان، أن ينسوا لحظات الرعب والخوف تحت القصف وأشلاء الضحايا تحت الركام وقنص الأبرياء في الطريق وقصف المستشفيات التي هرعوا إليها ومرارة اليتم وقسوة الجوع والعطش وذل توزيع الأكل والماء وقد طحنوا في زحمة خانقة بحثا عنهما رافعين الأواني بوجوه شاحبة وحائرة.
كيف لهؤلاء الأطفال أن ينسوا أن 625 ألفا منهم حرموا من الالتحاق هذا العام بمدارسهم، إذ لأول مرة منذ نكبة 1948 يتم إلغاء العام الدراسي في قطاع غزة.
لن ينسى هؤلاء أبدا كل هذا الذي عاشوه طوال هذه الأشهر والذي يفوق في فظاعته ما جرى في نكبة 1948، التي روى لهم تفاصيلها آباؤهم وأجدادهم، مع فرق جوهري بين النكبتين وهو أن النكبة الحالية تابعها العالم كله على الهواء لكنه لم يحرك ساكنا، ولذلك لن يقول أي كان إنه لم يكن يعرف. هؤلاء الأطفال لن يغفروا للعالم كله تخاذله ونفاقه، ولا للعرب ضعفهم وهوانهم ونذالة بعضهم.
وإذا كان الصحافي الأمريكي الشهير توماس فريدمان قد كتب قبل أيام أنه يتمنى أن يكون حاضرا في مؤتمر صحافي ليحيى السنوار بعد انتهاء الحرب ليسأله لماذا قتل حوالي 37 ألف من سكان غزة؟ ـ ودون أن نسأله نحن عن وجاهة توجيهه مثل هذا السؤال للسنوار وليس لإسرائيل والولايات المتحدة ـ فإن ما نريد أن نسأله نحن للقادة الإسرائيليين هو هل استعددتم للعيش مع هؤلاء الأطفال حين يكبرون إذا ما استمر هذا الاحتلال البغيض وهذا العجز الدولي عن منح شعب كامل حقه في الحياة والكرامة وتقرير المصير؟ يومها عليهم انتظار «تسونامي الأقصى» وليس طوفانه، ويومها قد يترحمون على السنوار وجماعته بل وعلى ما جرى لهم في السابع من أكتوبر الماضي.
عن القدس العربي