توقعات الانتخابات الفرنسية وتداعياتها على الاتحاد الأوروبي والسياسات الخارجية

 

مع اقتراب الانتخابات التشريعية الفرنسية المبكرة التي دعى لها الرئيس الفرنسي ماكرون قبل أسابيع في خطوة قد تعتبر قفزاً إلى المجهول بالوضع الفرنسي وتداعياتها تحديداً على القارة الأوروبية، على أثر فوز اليمين المتطرف الفرنسي في الانتخابات البرلمانية للإتحاد الأوروبي الذي عرضت تداعياته في مقال سابق لي.

فإن الجولة الأولى للانتخابات ستجري يوم غد الأحد الثلاثين من الشهر الجاري والجولة الثانية في السابع من تموز. حيث تشتد المنافسة بين القوى السياسية الرئيسية، ويبرز التنافس الشديد بين حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بقيادة مارين لوبان وشريكها جوردان بارديلا الذي يبلغ من العمر ٢٩ عاماً، والذي من الممكن أن يصبح رئيساً للوزراء في حال فوزهم وتمكنهم من تشكيل الحكومة.

ومن الجانب المقابل جبهة اليسار الموحدة بتشكيلتها الجديدة الموسعة التي تضم أحزاباً يسارية مختلفة، حيث يشجع النظام السياسي الفرنسي المجزأ ونظام الجولتين على تشكيل التحالفات، ولهذا السبب وافق الاشتراكيون على الانضمام لهذه الجبهة إلى جانب الخضر والشيوعيين وفرنسا الأبية حزب اليساري جان لوك ميلونشون الذي خاص الانتخابات الرئاسية قبل عامين إضافة إلى النقابات العمالية.

برأيي تداعيات نتائج هذه الانتخابات ستكون بعيدة المدى، ليس فقط على السياسة الداخلية لفرنسا، ولكن أيضا على علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة والصراعات الدولية مثل الحرب في أوكرانيا وقضيتنا الفلسطينية.

 تداعيات فوز جبهة اليسار الموحدة

إذا حققت جبهة اليسار الموحدة "الجبهة الشعبية الجديدة " تقدماً كبيراً في الانتخابات، والتي تشير الاستطلاعات الأخيرة حصولها على 32٪، يمكن أن يشهد الاتحاد الأوروبي تحولات مهمة. حيث ستدفع الجبهة باتجاه سياسات داخلية فرنسية أكثر توازناً تركز على العدالة الاجتماعية وتخفيض التقشف المالي وقضايا اللاجئين ورفع نسبة الضرائب على شرائح الأغنياء، فمن المتوقع أن تعزز الجبهة الشعبية السياسات الداعمة لحقوق الإنسان وقضايا الهجرة.

أما على صعيد العلاقات مع الولايات المتحدة، فجبهة اليسار قد تسعى إلى علاقات أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة، خاصة في مجالات السياسة الخارجية والتجارة. هذا التوجه يمكن أن يقلل من الاعتماد على التحالفات التقليدية لفرنسا مع الولايات المتحدة، ويدفع نحو بناء شراكات جديدة ومتنوعة الأقطاب، وذلك من خلال سعي الجبهة لتقليل الالتزامات العسكرية الفرنسية الخارجية، ما يمكن أن يؤثر على التنسيق الدفاعي مع الولايات المتحدة وحلف الناتو.

أما على صعيد موضوع الحرب في أوكرانيا، واضح أن جبهة اليسار تتبنى موقفاً أقل تشدداً تجاه روسيا، مما قد يؤثر على جهود الاتحاد الأوروبي الموحدة لدعم أوكرانيا وفق السياسات العقابية المتبعة حتى اللحظة ضد روسيا. هذا التوجه يمكن أن يضعف من موقف الاتحاد الأوروبي تجاه روسيا، ويؤدي إلى تناقضات داخلية بين الدول الأعضاء بالإتحاد الأوروبي وبالمقابل يقوي الموقف الروسي في مواجهة الولايات المتحدة التي تخوض حربها ضد روسيا بالوكالة في حال تمكن اليسار الموحد من النجاح في تشكيل الحكومة القادمة.

وعلى صعيد القضية الفلسطينية، فقد أظهرت قوى اليسار تاريخياً دعماً قوياً لحقوق شعبنا الفلسطيني. وفي حال فوز جبهة اليسار، فأنها ستكثف من الضغوط على الرئاسة والحكومة الجديدة فور تشكيلها لاتخاذ مواقف فرنسية أكثر تشدداً تجاه إسرائيل وأكثر تأييدا لكفاح شعبنا، بما في ذلك دعم فعلي أكبر لحل الدولتين وفق حدود 1967 والقدس الشرقية عاصمة دولة فلسطين، مع تنامي فرصة الإعتراف الفرنسي بالدولة وانتقاد سياسات الاستيطان وحرب الإبادة في غزة بما في ذلك تعزيز المقاطعة وتأييد اجراءات عقابية وتحديداً في مجال توريد الأسلحة والمواقف بالمنظمات الدولية والقضائية. هذا التوجه قد يعزز من موقف فرنسا في التوسط بفعالية أكبر في النزاعات الإقليمية وتعزيز سياسات مناهضة قضايا الإستعمار الإسرائيلي والرؤية الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط.

لكن وفي نفس الوقت قد تبرز لاحقاً بعض التباينات في مواقف مكونات وتشكيلات الجبهة نظراً لأزمة هوية اليسار الأوروبي وتعريفاته ومواقف أطرافه المتباينة أحياناً من بعض القضايا المثارة.

تداعيات فوز حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف

فعلى صعيد الاتحاد الأوروبي، فأن فوز مارين لوبان وشريكها جوردان بارديلا وحزبهم التجمع الوطني الذي تشير الاستطلاعات إلى تقدمهم وفوزهم بحوالي 36٪ يمكن أن يؤدي إلى محاولات تقويض التكامل الأوروبي. لوبان - بارديلا قد يسعيان إلى تقليل التزامات فرنسا تجاه مؤسسات الاتحاد الأوروبي واستعادة المزيد من السيادة الوطنية على حساب القرارات الأوروبية المشتركة بل وعلى حساب مستقبل وحدة الاتحاد الأوروبي. هذا الموقف قد يؤدي إلى أزمات داخلية في الاتحاد وزيادة التوتر مع الدول الأعضاء الأخرى والمساهمة في تصاعد حركات اليمين المتطرف في جميع أنحاء أوروبا.

وقد تصبح العلاقات مع الولايات المتحدة معقدة في حال فوز اليمين المتطرف، خاصة إذا تبنت سياسات قومية وانعزالية تتعارض مع التوجهات الأمريكية في أوروبا من حيث الهيمنة على سياساتها. رغم ذلك، قد تجد لوبان وبارديلا حلفاء لهم من التيارات اليمينية داخل الولايات المتحدة وربما أكثر قرباً من المرشح ترامب، مما قد يخفف من بعض التوترات في حال فوزه بالرئاسة الأمريكية. كذلك سيؤدي فوز اليمين المتطرف إلى تأثر العلاقات الدفاعية التقليدية بين فرنسا والولايات المتحدة، مع احتمال تقليل التعاون في بعض المجالات وتحديداً مع إدارة بايدن.

أمّا فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا، اليمين معروف بمواقفه بخصوص ما يصفوه بالانتهاكات الروسية للقانون الدولي وهم لا يتخذون موقفاً سلبياً من زيلينسكي. هذا الموقف لن يقوض الجهود الأوروبية الموحدة لدعم أوكرانيا وفق سياسات الولايات المتحدة والناتو بالخصوص وخاصة في مجال توريد الأسلحة لها، مما لن يضعف موقف الاتحاد الأوروبي بشكل عام من هذه القضية التي أرهقت الشعوب الأوروبية اقتصادياً.

وفي شأن القضية الفلسطينية، تاريخياً أظهرت ماري لوبان التي تسعى بعد 3 سنوات الترشح للرئاسة الفرنسية واليمين بشكل عام مواقف مؤيدة لإسرائيل. ففي حال فوزها، أعتقد بأنها ستتبنى سياسات أكثر دعماً لحكومة الاحتلال الإسرائيلية على حساب حقوق شعبنا، مما قد يؤدي إلى تراجع في الدعم الفرنسي التقليدي لحل الدولتين والمبادرات السلمية في الشرق الأوسط التي قد اعتادت فرنسا الحديث عنها ولو بشكل لفظي وإلى تغير في نمط تصويت فرنسا في المنظمات الدولية، رغم أن سياسات الرئيس ماكرون قد اتسمت بالنفاق وازدواجية معاييره في شأن صراعنا مع الاحتلال الإسرائيلي.

صراع الحضارات ونظرية الاستبدال

من الخطأ الفادح تصوير احتضان إسرائيل لبارديلا مرشح اليمين المتطرف إلى جانب زعماء اليمين المتطرف الآخرين في أوروبا الذين حققوا نتائج متقدمة في انتخابات البرلمان الأوروبي، على أنه خطأ فادح يتعلق بالموقف اليهودي التاريخي من النازية - بغض النظر عن حقيقته. إنها مواقف إسرائيلية تعبر عن انتهازية سياسية تعتبر صعود اليمين المتطرف شريكاً أوروبياً يتفق مع سياسات الاحتلال والحركة الصهيونية في اضطهاد شعبنا الفلسطيني.

فمن الواضح أيضاً أن ما يفكر فيه زعماء اليمين المتطرف في فرنسا ودول أوروبية أخرى عن اعتقادهم أن "الحضارة الغربية" مهددة من قبل الإسلام، وأن "السكان الأصليين" مهددون من قبل المهاجرين، يعبر عن الفكر العنصري الفوقي لليمين المتطرف الذي يؤيد صراع الحضارات ويتخوف من نظرية الاستبدال في أوروبا، وهو أمر تمارسه الصهيونية الدينية وبعض الليبراليين منها الذين يسعون إلى الإحلال والاستبدال الإستعماري في أرضنا مكان سكانها أصحاب الأرض الأصلانيين.

إذن فسواء كانت النتائج لصالح جبهة اليسار الشعبية الموحدة أو حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، فإن تداعياتها ستكون واسعة النطاق وستعيد تشكيل السياسة الفرنسية داخلياً وخارجياً. فوز جبهة اليسار قد يؤدي إلى سياسات أكثر تقدمية واستقلالية، في حين أن فوز اليمين لوبان - بارديلا قد يؤدي إلى سياسات إنعزالية تؤثر على التكامل الأوروبي والعلاقات الدولية وتصعيد التطرف العنصري الأوروبي ضد الهجرة.

إضعاف مكانة الرئيس الفرنسي ماكرون

ومن جهة أخرى وفي ظل تلك الاحتمالات الانتخابية القائمة، سواء بفوز اليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان - بارديلا أو جبهة اليسار الموحدة، سيواجه الرئيس الفرنسي ماكرون وحزبه الذي من المتوقع حصوله على 20٪ من الأصوات صعوبة وتحديات كبيرة في تشكيل التحالفات البرلمانية القادمة لضمان استمرار حكمه كرئيس بفعالية إذا تمكن من إدارة الأزمة والتعاون مع الأحزاب الصغيرة الباقية المتوقع حصولها مجتمعة على 22٪. ففي حال فاز اليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان وبارديلا، فإن موقف الرئيس ماكرون وحزبه "الجمهورية إلى الأمام" سيصبح حساساً للغاية. حيث من غير المرجح أن يتحالف ماكرون وهو نيوليبرالي من اليمين الوسط مع حزب لوبان اليميني المتطرف نظراً للاختلافات الأيديولوجية الكبيرة بينهما وتحديداً فيما يتعلق بالسياسات الأوروبية والهجرة والاقتصاد والأقليات خاصة من المسلمين.

وبغض النظر عن نتيجة الانتخابات، سيسعى ماكرون إلى ضمان استقرار حكمه حتى الانتخابات الرئاسية القادمة عام 2027 من خلال تحالفات تكتيكية. الاتجاه الذي قد يسلكه يعتمد بشكل كبير على النتائج النهائية للانتخابات وتوزيع المقاعد في البرلمان.

 فقد يتجه ماكرون إلى لعب دور المعارضة القوية لسياسات اليمين المتطرف في حال فوزهم ونجاحهم في تشكيل الحكومة، محاولاً توحيد القوى المعتدلة واليسارية داخل البرلمان لمواجهة سياسات لوبان واليمين المتطرف. وقد يهدف التنسيق مع الأحزاب اليسارية والوسطية الحفاظ تشكيل حكومة مشتركة وعلى توازن القوى ومنع التحركات من قبل اليمين المتطرف وتقدمه وتداعيات ذلك على فرنسا، لكن لذلك استحقاقات على ماكرون أن يدفعها لليسار في شأن توجهاته النيوليبرالية التي يعارضها اليسار.

محطة هامة

في كل الحالات، ستظل الانتخابات الفرنسية محطة مهمة نترقبها نحن الفلسطينين ويترقبها العالم، لتحديد مسار أحد أهم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بل وفي العالم.

Loading...