العداء القومي ونظريات صراع الحضارات والاستبدال، بين الحركة الصهيونية واليمين المتطرف الأوروبي

 

مع استمرار حرب الإبادة ضد شعبنا في غزة وفشل المجتمع الدولي في وقفها تعمداً أو ضعفاً وتصاعد تنفيذ رؤية الاحتلال في الضفة الغربية ومؤخراً زيادة حدة الإجراءات التي يتبناها وزير المالية الإسرائيلي سموتريتش زعيم حزب الصهيونية الدينية ومن خلفه نتنياهو، بل وكل أركان الحكومة والمعارضة الصهيونية التي ما لبثت تهدد وتتوعد شعبنا، والتهديد بتوسيع حربهم شرقاً وشمالاً وذلك في ظل أزماتها وتنافسها على مدى إلحاق الأذى بشعبنا وشعوب المنطقة ومحاولة منهم للهروب إلى الأمام، دون أن يفكر أحد منهم بأن احتلالهم هو مصدر أزماتهم وأن استقرارهم مرتبط بحرية وكرامة شعبنا الفلسطيني. وأشير إلى ما قاله الصديق نبيل عمرو في مقالته الأخيرة "هنالك جنون شامل بإسرائيل يبدوا أن لا خلاص منه على المدى المنظور".

أمام ذلك تبرز تساؤلات حول الدوافع الأيديولوجية والسياسية إضافة إلى جوهر الفكر الصهيوني، التي تقف وراء هذه السياسات التي تجد حضناً دافئاً من جانب قوى اليمين المتطرف حول العالم التي باتت اليوم ذات تأثير وفي تزايد ملحوظ خاصة في أوروبا بعد تصاعد قوة اليمين المتطرف والشعبوي في معظم دول القارة العجوز التي أرهقتها تبعيتها للسياسات الأمريكية وحروب الوكالة التي تنفذها هنالك وتداعياتها على الاوضاع الإقتصادية والاجتماعية للشعوب الأوروبية.

ولذلك فإنه يمكن إحالة تلك الدوافع الإضافية إلى التوافق والتماهي الحاصل اليوم بين الطرفين حول فهمهم ورؤيتهم المشتركة في ضوء نظريتي صراع الحضارات والاستبدال، التي باتت تميز سياسات سموتريتش والكل الصهيوني الجاري تنفيذها على الأرض بحق شعبنا الفلسطيني ومستقبل حل الدولتين المفترض وحق تقرير المصير من جهة، وإلى ذات النظريات التي تؤثر اليوم على حاضر فكر اليمين المتطرف الأوروبي من جهة أخرى، على الرغم من ماضي اليمين المتطرف والشعبوي المعادي للسامية (إن كان ذلك مجرد ماضي وفق الروايات التاريخية برغم عدم سامية يهود أوروبا وتوافق اليمين المتطرف المتمثل بالنازيين مع الحركة الصهيونية على جزء من المحارق لتسهيل الهجرة الاستيطانية إلى فلسطين مقابل المال اليهودي بالثلاثينات من القرن الماضي)، حيث ينشط اليوم هذا اليمين الأوروبي المتطرف في مكافحة «معاداة السامية».  فبينما كان الاحتلال الإسرائيلي يذبح ويدمر ويحرق ويعذب في غزة، خرج زعماء جميع أحزاب اليمين السياسي المتطرف والمعتدل على السواء في فرنسا التي فاز بانتخابات المرحلة الأولى البرلمانية منها يوم أمس بتقدم كبير وغيرها أيضا من الدول الأوروبية إلى "ساحة المعركة" وبالشوارع للمطالبة ليس لإنهاء المجازر والاحتلال، بل للمطالبة بنهاية «معاداة السامية» ولتأكيد حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها، دون أي انتقاد لجرائم دولة الاحتلال ضد شعبنا. لقد ساد جو هستيري غريب في تلك الدول الأوروبية ضد أي شخص ينتقد الجرائم الإسرائيلية، وعلى وجه الخصوص بحق جان لوك ميلينشون زعيم اليسار الفرنسي الموحد وكل أحزاب اليسار الأوروبي التي كانت قد صاعدت مظاهراتها غير المسبوقة بالتضامن مع شعبنا الفلسطيني وتنديدا بجرائم الاحتلال. لقد تم اتهامهم بمعاداة السامية كما حصل سابقاً مع زعيم حزب العمال البريطاني، هذا اليسار الذي وقف ضد مجازر ومحارق هتلر النازية من خلال المقاومة الوطنية وضد معاداة السامية فعلا، فقد أصبحت اليوم الآية مقلوبة بحكم المصالح والرؤية المشتركة التي تجمع اليمين المتطرف الأوروبي بدولة الاحتلال .

يعتبر إفساح المجال لنشاط وتقدم اليمين المتطرف الشعبوي في انتخابات أمس بعد قرار الرئيس ماكرون وحزبه اليميني المعتدل بإجراء انتخابات مبكرة مع معرفتهم المسبقة بتقدم اليمين المتطرف هو أول اعتراف فعلي باليمين المتطرف من جانب التيار الحاكم كشريك شرعي في تاريخ فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية التي أخذت أوروبا إلى الهاوية بفعل الرؤية اليمينية المتطرفة للنازيين آنذاك، والتي تعتبر لوبان وشريكها بارديلا من يحمل إرث تلك المرحلة التاريخية الماضية التي شاركوا فيها بارتكاب الجرائم بحق الشعوب الأوروبية.

واليوم فإن دعم اليمين الأوروبي المتطرف هذا لإسرائيل قد سمح بتبيض جرائمها وسياساتها، في فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، النمسا، هنغاريا وغيرها كما في بريطانيا أيضاً، كما وبالمقابل يتم تبييض دور اليمين الأوروبي المتطرف بفعل دعمه "لإسرائيل الضحية ".

 إن رؤية وإجراءات سموتريتش التي أعلنها قبل أيام تمثل الوجه الحقيقي للصهيونية بكافة مكوناتها في الضفة الغربية، وهو المعروف بتوجهاته اليمينية الدينية المتطرفة التي تحظى بدعم وإشراف أبو اليمين المتطرف نتنياهو. وهو يتبنى سياسات تهدف إلى تعزيز السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية من خلال فرض السيطرة الكاملة على مناطق "ب" أسوة بمناطق "ج" التي حددها وفصّلها اتفاق أوسلو، وتقويض الوجود الفلسطيني فيها من خلال اجراءات متعددة تم الإعلان عنها والتي أقرتها حكومة الاحتلال وبما يخدم فكرة دولة يهودا، والذي يعتمد أيضاً على الايمان بنفس المصادر الفكرية لليمين الأوروبي المتطرف والمتمثلة في؛ 

 أولاً: نظرية صراع الحضارات، التي طورها صموئيل هنتنغتون، والتي تفترض أن الصراعات المستقبلية ستدور بين الثقافات والحضارات المختلفة بدلاً من الدول القومية. في السياق الفلسطيني، تتبنى معظم الأوساط الصهيونية وأحزابها الإسرائيلية هذه النظرية لتبرير سياساتهم الاستعمارية، حيث يصورون الصراع مع شعبنا الفلسطيني كجزء من صراع أوسع بين الحضارة الغربية (التي يعتبرون إسرائيل جزءاً منها) والحضارة الإسلامية الذي يُعتبر المسيحيين العرب جزءً منها بالمشرق العربي، إلى جانب تفسيراتهم الدينية التوراتية التلمودية حول "دولة يهودا والسامرة" ، كما الدوافع السياسية والاقتصادية للفكر الصهيوني في خدمة مشاريع الخطط الأمريكية لمنطقتنا والمنطقة الأوسع والمتضمنة في مشروعهم حول الشرق الأوسط الجديد، كما وربط آسيا بأوروبا من خلال الخطوط التجارية والبحرية الجديدة وقضايا الطاقة والغاز، في محاولات لإعاقة المتغيرات بالنظام الدولي لمواجهة الصين وروسيا ودول منظمة البريكس بشكل عام. وهي ذاتها تعبر عن توجهات اليمين الأوروبي الذي يرى في إسرائيل خط الدفاع عن أوروبا من زحف حضارة الشرق إليهم .

ومن الجانب الآخر، فإن تلك النظريات هي ما توجه رؤية اليمين المتطرف الأوروبي في شأن معاداة الإثنيات الأخرى في المجتمعات الأوروبية بما في ذلك النظرة المعادية للإسلام "الإسلامو فوبيا"، ومعادة قضايا الهجرة إلى أوروبا .

ثانيا: نظرية الاستبدال التي تروج لفكرة أن هناك محاولة منظمة لاستبدال "السكان الأصليين" بمجتمعات أخرى، غالباً ما تكون مهاجرة وهو ما يعتقد به اليمين الأوروبي المتطرف لمواجهة ظاهرة الهجرة إلى أوروبا للبحث عن حياة أفضل من مناطق النزاع بالعالم. في السياق الإسرائيلي، تُستخدم هذه النظرية لتصوير الفلسطينيين كتهديد ديموغرافي يجب التصدي له من خلال أشكال عنصرية قمعية ومن ضمنها مشاريع التهجير القسري وزيادات منسوب الهجرة اليهودية الاستيطانية إلى فلسطين للوصول إلى واقع ديموغرافي ينهي الأغلبية الفلسطينية في أرض فلسطين الانتدابية ويحقق لهم التفوق أو حتى الوجود اليهودي الخالص حتى لا يبقوا تحت تهمة الابرىتهايد. فسموتريتش وأنصاره وكل مكونات الفكر الصهيوني يروا أن زيادة السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية تهدد الهوية اليهودية لإسرائيل، وبالتالي يجب اتخاذ إجراءات صارمة لتقليل هذا التهديد من خلال ما يجري من إبادة وتهجير في غزة ورؤيتهم حول الضفة الغربية بما فيها القدس التي أتموا الحزام الاستيطاني حولها وتهويدها حتى من داخل أسوار البلدة القديمة حيث اصبح المستوطنين اليهود اليوم يشكلون 60٪ من تعدادها السكاني، وبالضفة حوالي 25٪ تقريباً من التعداد السكاني، وهو رقم يزداد باطراد قد يؤدي إلى تغير الخريطة الديموغرافية حتى بأراضي دولة فلسطين المفترضة .

لذلك فإن المخاطر على شعبنا  الفلسطيني اليوم تزداد بفعل ذلك التوافق والتماهي الحاصل بين الجهتين بعد تكرار فوز قوى اليمين المتطرف في أوروبا والحبل يبدو على الجرار، مما سيؤدي ربما في وقت قصير إلى معاداة أي توجه يتم خلاله انتقاد سياسات دولة الاحتلال حتى يصلوا بشعوبهم مرة أخرى إلى القناعة أن يهود إسرائيل هم الضحية وأن شعبنا الفلسطيني هو مُرتكب الجرائم البشع، طالما لا يعمل اليسار الأوروبي على توحيد نفسه ومختلف مكوناته كما حدث في فرنسا مؤخراً بشكل أوسع أوروبياً لمواجهة تلك المخاطر ويعمل على الإطاحة بهذا الفكر للمرة الثانية بعد القضاء على النازية سابقا بالمرة الأولى.

وهذا قد يدفع في حال استمرار نجاح اليمين المتطرف في باقي الدول الأوروبية على التأثير على مبدأ حل الدولتين رغم أن اليمين المعتدل الأوروبي هو من جعله شعاراً دون اقترانه بآلية تنفيذية وبالتالي غير قابل للتحقيق بفعل المتغيرات الحاصلة على الأرض دون اجراءات عقابية تقاعس عنها الاتحاد الأوروبي بالتوافق مع الولايات المتحدة لإمكان الزام دولة الاحتلال على الأقل بالقانون الدولي والقرارات الأممية وتحديداً منها في شأن القدس والاستيطان، وما يجري الآن من تقاعس إضافي في شأن وقف عدوان الإبادة في غزة الذي يستهدف كل شعبنا، بل وفي تورط البعض به. الأمر الذي في حال استمراره سيؤدي إلى زيادة التوترات السياسية والعسكرية بالمنطقة وتراجع الثقة بالعمل الدولي والذي لا تحترمه إسرائيل بضربها قرارته بل وقرارات المحكمة الدولية بعرض الحائط. مما سيشكل حتى وقت قريب طالما استمر هذا الحال مخاطر على حق تقرير المصير لشعبنا وتآكل الدعم الدولي في غياب أي فرص لعملية تفاوضية بإصرار الاحتلال على استهداف كل مكونات شعبنا وإضعاف القيادة الفلسطينية من خلال محاصرتها وحرص الاحتلال على إعاقة الوحدة الوطنية الواسعة في إطار منظمة التحرير.

وفي حال فوز الأكثر يمينية وشعبوية ترامب فإن سياسات سموتريتش وكل حكومة نتنياهو المعلنة في الضفة الغربية التي تتقاطع مع نظريتي صراع الحضارات والاستبدال لتشكيل واقع معقد يهدد مستقبل الشعب الفلسطيني ويؤخر حقوقه التاريخية حيث ستعتمد هذه السياسات على تعزيز السيطرة الإسرائيلية وتقويض الوجود الفلسطيني من خلال إجراءات قمعية تهدف إلى تغيير التركيبة الديموغرافية والجغرافية للمنطقة، والتي ستحظى بدعم أكبر من اليمين المتطرف العالمي، حتى يصل الإسرائيليون بحكم أزماتهم بأن استمرار احتلالهم هو مصدرها
.

في النهاية، تحتاج هذه التطورات والسياسات إلى مراجعة فلسطينية شاملة كنت قد تحدثت عنها في مقالات سابقة، وتدخل دولي لضمان حقوق الفلسطينيين وتحقيق سلام عادل ومستدام في المنطقة. تَبني مقاربات أكثر إنسانية وعدالة من قبل المجتمع الدولي يمكن أن يسهم في تخفيف حدة الصراع وتعزيز فرص السلام والاستقرار في الشرق الأوسط على أساس من الحرية والعدالة .

 

Loading...