طوال الأشهر الماضية كان السؤال الذي يلحّ على أذهان الجميع وعلى كل الأطراف، هو متى تتوقف حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة؟ في حين بات السؤال اليوم: متى تندلع الحرب الإسرائيلية ضد لبنان؟ وفي كلا الحالين المقصود أن إسرائيل هي التي تشن الحرب وهي التي تقتل وتدمر وتشرد، وتاليا هي الطرف المعني بإيقافها، بغض النظر عن خطابات الحماسة والتوعد التي اعتادت حركة "حماس" إطلاقها في غزة، و"حزب الله" في لبنان.
المقصود، أيضا، أن إسرائيل هي التي تراكم العوامل التي تدفع للانتقال من الحرب في غزة إلى الحرب في لبنان، بتهيئة جيشها، وتوفير المناخات السياسية الداخلية والخارجية لتأمين شرعية الحرب، بدعوى الدفاع عن النفس، وعدم السماح لـ"حزب الله" باستهدافها، مستقبلا، في "طوفان-2" مماثل لهجوم "حماس" (في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي)، مضيفة إلى ذلك صدّ تزايد نفوذ إيران وخطر ميليشياتها في المنطقة، التي باتت تشكل، أيضا، خطرا لها وللاستقرار الإقليمي والدولي، بدلالة ما يحصل في اليمن ومضيقي باب المندب وهرمز.
وعمليا لا شيء يردع إسرائيل عن الإقدام على هكذا خطوة تعتبرها مصيرية لوجودها وأمنها ولتأكيد ذاتها كدولة رادعة وضمنه محاولة استعادة صورة "الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر". وكلها أمور غاية في الأهمية لاستعادة إسرائيل مكانتها وصورتها، على الصعيدين الإقليمي والدولي وتعزيز ثقة مواطنيها اليهود، باعتبارها مكانا آمنا لهم. ومما يعزز اندفاع إسرائيل نحو حرب في لبنان، حكومتها المتطرفة والدعم الأميركي اللامحدود لها وميل الدول الغربية للدفاع عنها ضد أي خطر يتهددها، على غرار ما حصل في صد الصواريخ الإيرانية (في أبريل/نيسان الماضي).
بيد أن إسرائيل، كما هو واضح، لن تذهب إلى الحرب من دون استنفاد الفرص السياسية في إلزام لبنان بتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701، الذي صدر بعد حرب لبنان الثانية (2006)، ونجم عنها تدمير أجزاء كبيرة من الضاحية الجنوبية ومناطق في الجنوب اللبناني ومصرع 1200 من اللبنانيين والذي يقضي بإخلاء منطقة جنوب الليطاني من قوات "حزب الله"، وإحلال الجيش اللبناني والقوات الدولية فيها.
من جهة "حزب الله"، فإنه يرفض الإذعان لتلك المطالب، بل يرفض وقف القتال الدائر بينه وبين إسرائيل، وفق القواعد المتوافق عليها والتي يجري تجاوزها أحيانا، سيما من قبل إسرائيل، وذلك منذ الثامن من أكتوبر الماضي، باعتباره إسنادا لغزة. ولعل التهديد الذي وجهه "حزب الله" لإسرائيل، في خطاب أمينه العام حسن نصر الله (19/ 6)، أبرز دليل على ذلك، باعتباره مع ميليشيات إيران في المنطقة، جبهة واحدة، يمكن أن توجه ضربات موجعة لإسرائيل، وبتوعده أن "المقاومة ستقاتل بلا ضوابط أو قواعد أو سقوف إذا فُرضت عليها حرب شاملة مع إسرائيل... برا وبحرا وجوا"، مع تلويحه بـ"إمكانية دخول المقاومة إلى الجليل... العدو يعرف جيدا ما ينتظره في البحر الأبيض المتوسط، حيث ستُستهدف جميع سواحله وبواخره وسفنه" حتى إنه ذهب إلى حد تهديد قبرص، العضو في الاتحاد الأوروبي.
ويستند "حزب الله" في كل أطروحاته إلى الدعم اللامحدود، الذي تقدمه إيران له، سيما مع توجهها نحو التخلي عن سياسة "الصبر الاستراتيجي" التي تميزت بها طوال السنوات السابقة، التي كانت تتلقى فيها ضربات إسرائيل في لبنان وسوريا، وحتى داخل حدودها، دون أن ترد عليها مباشرة، وهو ما تم إعلانه في خطاب المرشد علي خامنئي (3/ 6/ 2024)، والذي تراجع فيه عن سياسة النأي بالنفس عن عملية "طوفان الأقصى"، برفضه أي مفاوضات حول وقف إطلاق النار في غزة، وعدم السماح بإنقاذ إسرائيل، واعتباره أن عملية "الطوفان" كانت ضرورية لقطع الطريق على الترتيبات الأميركية في الشرق الأوسط.
السؤال الجوهري الآن، هل إيران مستعدة لأخذ خيار الحرب ضد إسرائيل، مباشرة أو مداورة، إلى حد تهديد النظام الإيراني في إيران ذاتها؟ أم إنها، كالعادة، تهدد لتعزيز مكانتها في المساومة، بحيث تتجنب الحرب، تماما مثلما تجنبت التورط في كل الحروب التي شنتها إسرائيل في غزة، كما بدا في تصريحات مسؤوليها، وضمنهم المرشد، في اليوم الأول لـ"طوفان الأقصى"، وحتى لو تعلق الأمر بحرب تشنها إسرائيل ضد "حزب الله" في لبنان؟
ومن الواضح أن إيران تشتغل بمنهج إيجاد دروع مختلفة تحصن بها نفسها، وتقوي قدراتها، لتعزيز مكانتها الإقليمية والدولية وللدفاع عن نفسها، أيضا. أي إن غاية النظام الإيراني، في الحالين تتماشى، أو تتكيف، مع الاستثمار الأميركي (والإسرائيلي) في السياسات الإيرانية في العراق وسوريا ولبنان واليمن والتي خدمت في تعزيز مكانة إسرائيل في المنطقة، وسهلت على الولايات المتحدة ابتزاز الدول العربية بالتغول الإيراني.
في هذه المساومة، المرجحة، يدرك النظام الإيراني أن ثمة في الولايات المتحدة من يشتري أو يستثمر، في سياساته خدمة لمصالح إسرائيل في إضعاف المشرق العربي، وضرب وحدته المجتمعية على أسس طائفية وهو ما نجحت فيه إيران. في المقابل استفادت إيران من تلك السياسة الأميركية، كفرصة سانحة لها، لتقوية سلطتها في الداخل وفي الإقليم، في نوع من استثمار وتواطؤ، غير مباشر، وربما هذا ما تراهن عليه إيران حاليا.
المشكلة في هذا الافتراض أن إسرائيل، بعد ما حصل في حرب غزة، باتت معنية بعدم التعايش مع الصيغة السابقة. أي وجود "حزب الله" على حدودها الشمالية، وحيازة إيران قوة صاروخية وإمكان حيازتها قوة نووية، لذا فهي معنية، وفقا لحكومتها الحالية، بإقصاء "حزب الله" أو توجيه ضربة قاسية له، مع أو من دون توجيه ضربة لإيران، وللمشروع النووي فيها أيضا، ولعل هذه إحدى أهم نقاط الخلاف بين حكومة نتنياهو وإدارة بايدن.
على ذلك، لا أحد يستطيع التكهن بما قد يحصل، مع حرب محدودة أو شاملة أو من دون ذلك، فإسرائيل تهدد بتحويل لبنان إلى غزة أو إلى العصر الحجري، و"حزب الله" يهدد بتوجيه ضربات تضعضع إسرائيل من كل النواحي والوضع غاية في التعقيد لكل الأطراف.
بيد أن الأرجح هنا، وبالنظر لتبعية "حزب الله" لإيران، أن ما يهم هو بقاء "الحزب"، أولا، وعدم وصول الحرب إليها أو تورطها فيها وهي لن تغامر في سبيل أحد. ولا حتى من أجل "حزب الله"، إذ إن مصلحتها فوق كل شيء وهي أكثر من يعرف حدود قوتها، وحدود الدول الحليفة لها، إن وجدت، بالقياس لإسرائيل، المدعومة من الدول الغربية.
أما الأولوية الثانية فهي تجنيب "حزب الله" أية حرب مدمرة، حتى إن أولوية "حزب الله"- إن توفرت له ظروف- تأمين نزول "مشرف" عن الشجرة، بتوقف الحرب في غزة، وبحل سياسي على صعيد ترسيم الحدود البرية مع إسرائيل، إذ سيجد في ذلك مبررا للعودة إلى خلف الحدود 10 كيلومترات، ولو راهنا، لضمان بقاء هيمنته في لبنان، وبقائه كذراع إقليمية لإيران في سوريا. وربما ذلك، فقط، ما يمكن أن يكبح جماح إسرائيل، سيما أن ثمة في الولايات المتحدة من لا زال يرى مكسبا، حتى لإسرائيل، في الاستثمار بالسياسات الإيرانية في المنطقة.
لهذه الأسباب كلها، وبعيدا عن الشعارات الاستهلاكية، واستغلال البعض قضية فلسطين، لغايات أخرى، فإن المبادرة إلى الحرب بيد إسرائيل التي تريدها لأكثر من سبب، في حين أن وقف هذا المسار يتوقف على ما يفعله "حزب الله" وعلى الولايات المتحدة التي لا يمكن أن تشن إسرائيل حربا في لبنان من دون رضاها.