دمـار غـزة: هـل هـذا ثمـن التحريـر؟

أثارت تصريحات خالد مشعل عضو المكتب السياسي ومسؤول ساحة الخارج في حركة «حماس» زوبعة كبيرة وردود فعل ساخطة، عندما حاول تبرير الدمار الهائل وغير المسبوق في التاريخ الذي لحق بغزة جراء حرب الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل ولا تزال على غزة، في أعقاب الهجوم الذي نفذته «حماس» على غلاف غزة في السابع من أكتوبر من العام الماضي، بالقول بأن هذا هو ثمن التحرير وثمن المقاومة. وبعيداً عن المناكفات الفصائلية، دعونا نحاول تحليل عبارات مشعل، ونرى هل هو محق أم أن هناك محاولة من «حماس» للتهرب من المسؤولية وتحويل ما حصل إلى مجرد شيء طبيعي ينبغي أن يحصل للشعب الفلسطيني وهو يكافح من أجل تحرير وطنه، وأن هذا ثمناً لا بد أن يدفعه في سبيل ذلك؟
في الواقع، كنا مع عدم فتح موضوع المسؤولية عن الكارثة الكبرى التي ألمت بالشعب الفلسطيني في غزة، وكان من الأفضل أن يُترك موضوع التقييم إلى مرحلة ما بعد الحرب، على اعتبار أن وقف الحرب فوراً هو أولوية لا يسبقها أي شيء، فإنقاذ حياة المواطنين وتوفير مقومات الحياة هو الأهم الآن، ولكن تصريحات مشعل تستحق أن تناقَش طالما هو يتحدث بهذه الثقة والخفة عن حياة عشرات آلاف المواطنين الذي قضوا في هذه الحرب الظالمة والبربرية، وعن الدمار الذي قضى على كل مقومات الحياة في غزة بصورة لم تحصل في كل الحروب التي خاضتها البشرية، ولا حتى في الحرب العالمية الثانية باستثناء إلقاء القنابل النووية على هيروشيما وناجازاكي في اليابان.
لنعُد إلى الوضع الراهن الذي نعيشه على المستوى السياسي، قد يقول قائل لولا هجوم «حماس» لما عادت القضية الفلسطينية بهذه القوة على الأجندة الدولية، ولما طُرح حل الدولتين بهذا الشكل باعتباره يشكل أولوية في التوجهات الدولية نحو خلق حالة من الاستقرار الأمني، وربما كانت الحرب هي السبب في تسريع اعتراف دول أوروبية وغيرها بدولة فلسطين، علماً بأن موضوع الاعتراف كان متداولاً بين عدد من الدول الأوروبية قبل الحرب. كما أن حركة التضامن على مستوى الشعوب من أميركا مروراً بأوروبا وانتهاء بمختلف أرجاء العالم لم يسبق لها مثيل. ولم تكن إسرائيل على الإطلاق بهذا الوضع السيئ على المستوى الدولي، حيث باتت معزولة ومتهمة بارتكاب جرائم حرب وقادتها يلاحقهم سيف العدالة، وقد يتحولون إلى مطلوبين للاعتقال والمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية. كل هذا صحيح وهناك ما هو أكبر وأعمق، ولكن هذا يحصل بسبب الخسائر البشرية والمادية الهائلة التي مُني بها الشعب الفلسطيني في هذه الحرب، والجرائم الإسرائيلية التي لم يتخيلها أحد.
يعتقد الكثيرون لدينا في فلسطين والعالم العربي أن إسرائيل ستنهار قريباً، وهناك من يبشر بأنها بدأت فعلاً بالانهيار، وأننا سنحتفل في وقت قصير بنهاية هذا المشروع الصهيوني الذي بدأ يتآكل من الداخل وتعصف به النزاعات والصراعات التي زادت في أعقاب الحرب. على اعتبار أن إسرائيل مهزومة وهذه الهزيمة ستؤدي إلى تفكيكها. والأمر في الواقع فيه الكثير من المبالغة والخفة، فالمشاكل في إسرائيل كانت قائمة والانقسامات فيها موجودة قبل الحرب وبعدها، تزداد وتخفت بناء على شكل وتركيبة الائتلاف الحاكم. ولكن هذا لا يشي أبداً بانهيار قريب للدولة، فلا تزال تملك وسائل البقاء سواء التي تمكنها من حل مشاكلها بالقانون أو عبر الانتخابات، كما أن اقتصادها لا يزال قوياً وقادراً على الصمود لفترة طويلة قادمة، والأهم أن إسرائيل التي قامت بقرار دولي لا تزال تحتفظ بمكانتها في المصالح الاستعمارية الغربية، وهناك من هو مستعد لدعمها والوقوف إلى جانبها في كل الظروف، بحيث أضحت هزيمة إسرائيل الكاملة ممنوعة وتشكل خطاً أحمر لدى الولايات المتحدة وعدد كبير من الدول الغربية.
وماذا لدينا نحن الآن، غير الدمار الهائل والانقسام وغياب الرؤية لليوم التالي للحرب؟ وهذا سيؤدي بنا إلى نكبة جديدة أكبر من نكبة العام 1948. ومن يعتقد أننا سنستعيد غزة على الأقل للوضع الذي كان عشية الحرب في فترة قريبة واهم بلا شك. فالأمم المتحدة تقول إن غزة بحاجة إلى 20 سنة على الأقل لتعود إلى ما كانت عليه، فنحن خسرنا أكثر من 40 ألف مواطن قتلوا وأكثر من 80 ألفاً أصيبوا، جزء كبير منهم لديهم إعاقات وكثير منهم قد لا يصمدون بسبب نقص الإمكانيات والقدرة على معالجة إصاباتهم. كما خسرنا الجزء الأكبر من مقدراتنا في غزة، بما في ذلك كل ما تحقق من بنية تحتية بُنيت على مدار عقود.
والأدهى هو ما وصل إليه سقف مطالب «حماس» فهي لا تطالب بالتحرير لا بالقدس ولا بالضفة بل تطالب ببعض ما كان لديها في غزة، تطالب بوقف الحرب والانسحاب وعودة النازحين ووجود «حماس»، أي أنها تريد الحفاظ على نفسها وتقبل أن تكون أضعف من السابق وحتى التنازل عن حكم غزة مقابل دور أمني وسياسي، فهل «المقاومة» أدت للتحرير بهذا المعنى وهذا الواقع؟ قطعاً لا، بل هي خسارة كبرى سندفع ثمنها لأجيال. ولو أن حركة «حماس» تتحلى بمسؤولية وطنية لكفت عن حديث الشعارات التي دمرتنا وتعاملت مع الواقع بالاعتراف بأنها أقدمت على مغامرة غير محسوبة أدت إلى ضياع غزة، ولا أحد يعلم ما الذي سيبقى منها ومن سيظل فيها خلال الفترة المقبلة. صحيح أن إسرائيل لم تحقق أهدافها المعلنة في الحرب، ولكنها حققت دماراً كبيراً وقتلت عشرات الآلاف، وحوّلت غزة إلى مكان غير لائق للعيش، وقد تنجح في التسبب بتهجير طوعي لعدد هائل من المواطنين عندما تسمح لهم الظروف، وهذا سيكون الإنجاز الأهم الذي تحققه إسرائيل منذ النكبة. عدا طبعاً عما يحدث بالضفة الغربية.

 

Loading...