يا إلهي.. الزمن يتغير

 

تحولت إسرائيل بفعل الصدمة في جلسة الدفاع عن اتهامها بارتكاب مجازر إبادة في قطاع غزة، إلى منظمة إغاثية متفانية في تلبية الاحتياجات الإنسانية، وليس ذلك غريباً على إسرائيل، فالكذب أساس قيامها، ووجودها، واستمرارها، ولكنها لم تجد نفسها في قفص اتهام في أعلى محكمة دولية في العالم قبل اليوم، وطبيعي أن ترتبك، وأن تعتمد على الكذب في محاولة الهروب من الكذب.

دفاع هش، سردية ضعيفة، مفككة، مجتزأة، مهترئة، مكررة، وأسطوانة مشروخة متوقعة، دائماً يجب تذكير أوروبا والغرب الأبيض بالمحرقة النازية، تلك مظلومية تاريخية لا بد من اجترارها واستحضارها في كل محفل، لكنها لم تعد تجدي نفعاً، والمفارقة في وجود إسرائيل في قفص التهام، هو أن هذه المحكمة تأسست عام 1948 بسبب ما حدث لليهود في ألمانيا النازية، لم يكن من السهل على المحتل المستعمر أن يجد نفسه متهماً بجرائم إبادة ضد الإنسانية، لم يستوعب أن ينزع العالم عنه ذلك الثوب، وأن يرتدي الفلسطيني بدلاً عن اليهود ثوب المظلومية، بتعرضه لإبادة جماعية على يد من تعرض لها في الحرب العالمية الثانية في ألمانيا النازية.

يا سلام، كيف يتغير الزمان، وكيف تنقلب الدنيا على قفاها، وهذا ما جعل بنيامين نتنياهو يقول بالأمس أن الدنيا انقلبت، ببساطة لأنه لم يستوعب أن لاهاي ستنزع عن دولته وشعبه ثوب المظلومية، وأنه لن يكون لديه فرصة لاستعطاف العالم باستخدام ما حدث لليهود في المحرقة، وأن يلبس الفلسطيني ثوب مظلوميته، أن تتغير الأدوار، وأن يصبح الفلسطيني ضحية إبادة لضحية الإبادة، ضحية الضحية، ودافع الفاتورة النهائية لمظلومية محتل أرضه.

لم تكن إسرائيل تتخيل عندما كانت أول الموقعين على قانون محكمة العدل الدولية، أنها ستدخل في القفص متهمة بأعمال تهدف إلى تحقيق إبادة للشعب الذي قامت دولة المحتل على تهجيره من أرضه، وشرذمته في مخيمات لجوء لا حصر لها، تلك مفارقة الزمان، لا شيء ثابت، وحبل الكذب قصير، ويزداد قصراً يوماً بعد آخر، سقطت السردية الصهيونية في لاهاي، والحديث عن اختطاف الرضع بات ممجوجاً، واجترار الهولوكوست أصبح مبعث ضجر، ومظهر "مسكنة" وابتزاز رخيص بعيداً عن مواثيق الدول، والواقع المرئي على الأرض، وما عاد العالم يصدق سردية السابع من أكتوبر، ولا عقل يمكن أن يصدق سردية تقول أن أحد أفراد حماس اغتصب امرأة، وقطع ثديها وهو ما زال يجامعها، فالعقل يمكن أن يفهم أن يقطع القاتل ثدي الضحية بعد أن يقضي حاجته، وليس خلال العملية. قال كيف عرفت "الكذبة"؟ قال: "من كُبُرها"!

كل من تحدث من الفريق الإسرائيلي في لاهاي مارس الكذب عامداً متعمداً، كل جملة انطوت على كذب، وتكرار لا طائل فيه، حماس استخدمت المدنيين دروعاً بشرية، سرقت المساعدات الإنسانية، وهي سبب معاناة أهل غزة، وجنوب إفريقيا حطت من قيمة مفردة الإبادة، فالإبادة هي حرق بالجملة من وجهة نظر إسرائيل، وليس القتل بالمئات على نحو يومي لمدة أشهر طويلة، الإبادة من وجهة نظر إسرائيل عمل عدواني ضخم يتم في يوم معين، هل يستطيع العالم توجيه تهمة لإسرائيل بالقيام بعمل إبادة جماعية في واقعة معينة، وفي تاريخ محدد؟

إسرائيل أرادت اليوم أن تقول للمحكمة: ليس لديك الحق في النظر في دعوى بهذا الشأن، وليس لدى جنوب إفريقيا الحق بسبب فقدان الدعوى شكلها الإجرائي الذي يجب أن يستند إلى حدوث شقاق بين الطرفين؛ جنوب الإفريقي والإسرائيلي، بشأن ما يقع في غزة، بما في ذلك ضرورة وجود تبادل في وجهات النظر المتضاربة بشأن القضية، والتعارض في الآراء بين الطرفين قبل تسجيل الدعوى، وكل همها أن لا تصدر المحكمة إجراءاً احترازياً لمنعها من ارتكاب أعمال إبادة في غزة، - كلية كانت أم جزئية - اتجاه مجموعة معينة، حسب ما ينص عليه قانون محكمة العدل الدولية.

إسرائيل تقول أن لا وجه للدعوى، لا حق بالإجراءات، لا أركان للجريمة، ولكن الحقيقة تقول أن وجودها في قفص الاتهام تحت عنوان تلك الدعوى، أرعبها، وقزم قدرتها، وشتتها، وأضعفها، وشوه صورتها، وخلخل مصداقيتها، ونزع عنها ثوب العفة والطهر و"الجيش الأكثر أخلاقية"، والأهم أن لاهاي نزعت عن الصهيونية مظلومية تاريخية، ورفض استخدام التاريخ في الدفاع عن نفسها من مظلومية حاضرة هي سببها، تمت على يديها، ولا تحدث ضد أفرادها، ومهما يكن قرار المحكمة، فإن إسرائيل خسرت في لاهاي، كما خسرت في السابع من أكتوبر، وكما خسرت في وحل غزة، وكما خسرت في تحقيق هدف من أهداف عدوانها سوى القتل والتدمير، ولكنها ستواصل الإنكار، إنكار الحقائق والحقوق، إلى أن ينال الفلسطيني حقوقه، ويعترف العالم بمظلوميته، وسرديته، لا مظلومية إسرائيل، ولا سردية أي من الإسرائيليين، بانتظار قرار المحكمة للفصل بين الضحية وضحية الضحية.

Loading...