أحصُر الكلام، في هذه المقاربة لتوضيح صورة الوضع في إسرائيل، باستعراض مختصر لمواقف وكتابات ثلاثة أسماء لإسرائيليين، وثلاثتهم من المؤرّخين: بيني موريس، إيلان بابيه ويوفال نُوَاح هَراري، وثلاثتهم منخرطون، حتى العظْم، في حقلي التاريخ والعمل السياسي، وتشكيل الرأي العام في إسرائيل.
ـ بيني موريس: واحد مَمّن ما عُرفوا في إسرائيل، في مطلع ثمانينيات القرن الماضي بمجموعة «المؤرّخين الجُدد» الذين بدأوا بنشر أبحاثهم، (المستندة على الوثائق الخطية في الأرشيفات الإسرائيلية، التي سمح برفع السّرية عنها، وعلى الحقائق والشهادات التي تمكنوا من جمعها وتوثيقها، إضافة إلى شهادات من أصحاب العلاقة المباشرة بتلك الأحداث الإجرامية، ومن ضحاياهم أيضاً) عن موبقات وجرائم الحركة الصهيونية العنصرية وإسرائيل. وظل بيني موريس، في كتاباته وأبحاثه، حريصاً على فضح تلك الجرائم الصهيونية/الإسرائيلية حتى سنة 2004، حيث انقلب، إثر الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ليصبح واحداً من أكثر الإسرائيليين تحريضاً مَرَضياً على الفلسطينيين والعرب، وعلى إيران ايضاً.
ـ إيلان بابيه: هو أيضاً من أبرز «المؤرخين الجُدد» في إسرائيل، وأكثرهم انتاجاً والتزاماً بمواقفه الإنسانية والعقلانية.
ـ يوفال نُوَاح هَراري: المؤرّخ وأستاذ التاريخ الأبرز في إسرائيل، والأكثر انتشاراً على الصعيد العالمي هذه الأيام، منذ صدور كتابه الأول سنة 2011. وصاحب الدّور الأبرز في الحراك والصراعات السياسية التي تعصف بالمجتمع الإسرائيلي منذ عِقد، بشكل عام، ومنذ تشكيل حكومة نتنياهو الحالية، البالغة العنصرية، وأكثر من ذلك منذ زلزال السابع من اكتوبر.
شيء من التفصيل، حول مواقف هؤلاء المؤرخين الإسرائيليين الثلاثة، يوضح مدى ارتباك غير مسبوق في المجتمع اليهودي في إسرائيل:
1ـ نبدأ من بيني موريس، خريج الجامعة العبرية في القدس، وجامعة كمبريدج في بريطانيا، واستاذ التاريخ في «جامعة بن غوريون» في بئر السبع، منذ 2005 حتى الآن.
بدأ اسم بيني موريس بالسطوع سنة 1988، عندما أصدر كتابه «ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين 1947 ـ 1949» نفى فيه، الرواية الإسرائيلية حول ولادة مشكلة اللاجئين، استناداً للوثائق في الأرشيفات الإسرائيلية، وشهادات المشاركين في الأعمال العسكرية في تلك السنوات، ونفى كذلك بعضاً من الرواية الفلسطينية حول تلك المشكلة، وضمّن كتابه وثائق عن عمليات صهيونية عسكرية فيها قصص العنف والاغتصاب والطرد والتهديد، وكذلك عن هجرة نسبة ضئيلة من الـ700 ألف فلسطيني بنصائح وتوجيهات قيادات فلسطينية وعربية. وضمّن كتابه الكثير من الوثائق والخرائط التي توضح مواقع نحو 370 قرية تم تدميرها وتهجير سكانها الفلسطينيين الى خارج خطوط الهدنة لسنة 1949، وإلى الدول العربية المحيطة بفلسطين. ولقي بيني موريس، بسبب ذلك، انتقادات حادة من المؤسسة الإسرائيلية.
لكن، (وربما بسبب أحداث الإنتفاضة الفلسطينية الثانية) انعكس موقفه 180 درجة، وجاءت الإشارة الأولى على هذا الانقلاب في مقابلة في جريدة هآرتس (9.1.2004) قال فيها إن « ارتكب بن غوريون خطأ استراتيجياً كبيراً بعدم إتمام مهمة الترانسفير (تهجير الفلسطينيين) سنة 1948» واضاف: «هناك استحالة لإقامة دولة إسرائيل النقية دون طرد العرب من مدنهم وقراهم داخل الخط الأخضر». وزاد على ذلك بأن «إقامة الدولة اليهودية هي مهمة أخلاقية». وختمها باعتباره «العرب والمسلمين بربريين… وحياة الفرد في الإسلام ليست ذات قيمة كما هي في الغرب».
لم يتوقف بيني موريس في انقلابه على ما كانت بدايته، وراح يتحدث ويكتب، منذ سنة 2007 عن اقتراب إسرائيل من مواجهة «ساعة الحقيقة» وضرورة استخدام السلاح النووي ضد إيران، لمنعها من انتاج سلاح نووي. قال ذلك في ندوتين في برلين وفيينا نظمتهما مجموعة تطلق على نفسها اسم «أوقفوا القنبلة».
ثم تابع ونشر مقالاً في نيويورك تايمز، في يوليو 2008، بهذه التوجّه والقناعة، وكان مقاله الأخير في جريدة هآرتس يوم الخميس الماضي، 27.6.2024، بعد أسبوعين من إطلاق إيران (من أراضيها) أكثر من مئتي صاروخ ومسيّرة على أهداف إسرائيلية، ليلة 13/14 من حزيران الماضي، وصل وأصاب عدد منها مواقع ومطارات إسرائيلية في النقب، رغم اعتراضات لمضادات أمريكية (بعضها من قواعد لها في الأردن) وبريطانية وفرنسية وإسرائيلية، وكان عنوان مقاله الذي يدل على فحواه: «نحن في لحظة حاسمة ضد طهران، وعلى إسرائيل أن تفكر في استخدام الأسلحة غير التقليدية».
قد يكون من المفيد، قبل الانتقال الى الفقرة التالية، تذكير بيني موريس، والقيادات العنصرية السياسية والعسكرية في إسرائيل، بحقيقتين: 1ـ ان مساحة إيران، (والمساحة هي واحد عناصر القوة الثابتة للدول) تعادل أكثر من مساحة بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا مجتمعة، وتعادل 66 ضعف مساحة فلسطين، (من النهر إلى البحر). و2ـ إن التأثير المباشر والفوري لـ«الأسلحة غير التقليدية» التي تمتلكها الدول الفقيرة بالتأكيد، وإيران منها، من أمثال الأسلحة الجرثومية والكيماوية وغيرها، لا يقِل عدد ضحاياها من البشر عن عدد ضحايا الأسلحة النووية، على أن تأثير هذه الأسلحة فوري فقط، وينتهي بعد ساعات من تفجيرها، في حين يستمر تأثير الأسلحة الذرية والنووية لعقود عديدة، ونستذكر، في هذا السياق، امتناع فرنسا عن تزويد الجزائر بالخرائط التي تحدد أماكن إجراء فرنسا لتجاربها النووية قبل أكثر من سبعين سنة في صحراء جنوب الجزائر، أيام كانت الجزائر، في عُرف العنصريين في فرنسا، «امتداد أراضي الدولة الفرنسية على الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط».
2ـ نصل الى المؤرخ الإسرائيلي، الناشط الساسي الاشتراكي، والأستاذ في كلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية في جامعة اكسيتر في بريطانيا، ومدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية في الجامعة.
إيلان بابيه، الذي التقيته آخر مرة قبل نحو سنة في قاعة المحاضرات في متحف محمود درويش في رام الله، في ندوة مع صديقنا المشترك، المؤرخ الفلسطيني، الدكتور جوني منصور (حيفا) المحاضر في قسم دراسات التاريخ في الكلية الأكاديمية في بيت بيرل. وإيلان بابيه من أبرز «المؤرخين الجدد» في إسرائيل، ما زال منصفاً في مواقفه وتصريحاته وكتاباته حول فلسطين والصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
آخر نشاط معلن لإيلان بابيه، كان إلقاءه محاضرة في حيفا بعد نحو أربعة اشهُر على زلزال السابع من اكتوبر، يوم 14.1.2024، حول موضوع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تحت عنوان: «بداية نهاية المشروع الصهيوني» وحدد فيه ستة علامات تشير إلى ذلك، وهي: الصراع الداخلي في إسرائيل، والتضامن العالمي غير المسبوق مع الشعب الفلسطيني، وإدراج إسرائيل كدولة فصل عنصري، وتردي الوضع الإقتصادي، وعجز الجيش عن حماية اليهود في الجنوب ( قطاع غزة) والشمال (حدود الجليل مع لبنان) وأخيراً: موقف الأجيال الجديدة من اليهود، ورفضها للسياسات والممارسات الإسرائيلية.
3ـ أخيراً، يوفال نُوَاح هَراري، هو أستاذ التاريخ في الجامعة العبرية في القدس، وكتابه الأول والأشهَر: «مختصر تاريخ البشرية» صدر بالعبرية سنة 2011، وترجم إلى ما قبل بضع سنين الى 52 لغة، (منها العربية، تحت اسم «العاقل») كما أصدر بعده كتاب «مختصر تاريخ المستقبل» وكتاب «21 فكرة للقرن الـ21» ويقولون إنه استجاب لطلب مستشارة ألمانيا السابقة، أنغيلا ميركل، لتحديد موعد للقاء به، فحدد الموعد لبعد 12 يوماً. هراري، الناشط الأبرز في الحراك داخل المجتمع اليهودي في إسرائيل ضد السياسات الإسرائيلية، وخاصة في عهد حكومة نتنياهو العنصرية الحالية. كان أبرز الداعين والمتحدثين في آخر النشاطات الجماهيرية في إسرائيل يوم الإثنين الماضي، 1.7.2024، الذي دعت له 44 منظمة وهيئة، في استاد لكرة السلة في تل أبيب، وحضره نحو 6000 شخص، وهو شيء نادر في إسرائيل هذه الأيام، وقال هّراري في كلمته: «كل واحد من الطرفين، (الإسرائيلي والفلسطيني) يعتقد أن كل هذه المساحة، (من النهر الى البحر) هي له فقط. وأن لا حق لوجود الشعب الآخر، في الوجود هنا. إن محاولة تغييب شعب كامل هي سكب للزّيت على مسلسل الدماء والرعب، والوضع يزداد سوءاً. لم يفت الأوان بعد لإصلاح ذلك. ليست الحرب واحداً من قوانين الطبيعة. إنها خيار إنساني يمكن اتخاذ خيار مختلف عنه، والبدء في صنع السلام. لقد أوصلتنا كل الحروب الى الهاوية. لقد حان الوقت لمنح السلام فرصة أخرى.