التحديات أمام تصعيد وتوسيع أشكال العدوان وضرورة الحفاظ على شعبنا ووحدة شقي الوطن

 

إن واقع سياسات دولة الاحتلال ورؤيتها لن يستجيب لأي حلول سياسية تنهي الاحتلال الاستيطاني ووقف عدوان الإبادة وجرائمها المستمرة غير المسبوقة في التاريخ الحديث للشعوب ومحاولتها إحلال مشرعهم بدولة يهودا والسامرة بدل الدولة الفلسطينية. ولذلك، يتوجب الحذر من رؤيتهم لمحاولة الفصل بين قطاع غزة والضفة الغربية بما فيها القدس والتي يفترض أن تشكل وحدة واحدة من أراضي الدولة الفلسطينية،  والانتباه أيضاً إلى عدم تكرار تجارب سابقة لم تؤدِ سوى إلى ما وصلنا له الآن، ليس لأننا نريد ذلك، ولكن لأنه أصبح واقعاً قائماً بحكم التعاطي مع سياسات الولايات المتحدة السرابية وتنكر الاحتلال لكافة الاتفاقيات بل واعتبارها لاغية والانخراط في مناقشة مسارات حلول أمنية واقتصادية أمام وصول المشروع السياسي لحالة الفشل بعد اتفاقية أوسلو وغياب أفق سياسي واضح يعتمد رؤى بديلة .

وقد أدى ذلك خلال الفترة الزمنية الماضية إلى التراجع في بنية جوهر مجتمعنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وغياب ثقافة الوحدة والعمل المشترك والرؤية الاستراتيجية الواضحة وما تتطلبه من برامج وأدوات لا تقبل التفسيرات المختلفة. الحرب والتوسع الإحلالي تبقي الخيارات الطبيعية للفكر الصهيوني ودولة الاحتلال المنفذة لهذا المشروع الاستعماري في فلسطين، لن يردعها عن ذلك سوى موقف فلسطيني موحد وجهد عربي ودولي شامل قائم على المحاسبة والمقاطعة والعقوبات لوقف حمام الدم الذي تنفذه بحق شعبنا، ليس بشكل مؤقت بل بشكل دائم وإلى محاصرة نظام الاستعمار الكولونيالي والأبرتهايد الإسرائيلي وتفكيكه وإنهاء الاحتلال عن كل الاراضي الفلسطينية لإقامة الدولة ذات السيادة .

من الواضح اليوم أن وجود جهد عربي أو حتى دولي جدي لن يكون قائماً إلا بعد ترميم البيت الفلسطيني على أساس الوحدة الوطنية لكافة مكونات شعبنا، دون اقتصارها على الفصائل فقط رغم أهمية دورها الكفاحي بل بما يضمن وجود المستقلين وقوى المجتمع الأهلي الإقتصادي والاجتماعي والأكاديمي وخاصة الشباب منهم، وتطوير دور عنوان واحد يتحدث باسم الشعب الفلسطيني كله يتمثل بمنظمة التحرير التي لا يختلف اثنان على ضرورة تنفيذها لمراجعة نقدية لمسيرة السنوات الطويلة وتطوير أدائها وفقًا لصياغة استراتيجية وطنية يتم التوافق حولها بما تتضمنه أيضاً من مراجعة ضرورية بعد انتهاء العدوان لمسار المقاومة منذ 7 أكتوبر في غزة تبعا لما أعلنته من أهداف وما حققته منها، وصولاً إلى اعتماد برامج وأدوات للوصول بشعبنا إلى الحرية والاستقلال الوطني حتى ولو تطلب الأمر التفكير خارج الصندوق المعتاد خاصة في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها شعبنا الذي يتهدده التجويع والتهجير والتطهير العرقي .

ليس هناك رئيس وزراء إسرائيلي واحد أو حكومة لم يمارسوا الجرائم ضد شعبنا أو لم يعملوا على توسيع الاستيطان وضم المناطق ومصادرة الأراضي. كما ليس هناك من كافة الأحزاب الصهيونية في إسرائيل من يعترف بحق شعبنا الفلسطيني في تقرير المصير وبدولة مستقلة ذات سيادة فعلية ومتواصلة جغرافيا وقابلة للحياة والاعتراف بالمسؤولية التاريخية عن تشريد الشعب الفلسطيني على إثر جريمة النكبة وحتى اليوم، فما المتوقع من أكثر حكومية ائتلافية صهيونية فاشية دينية، مع أكثرية شعبية شبه مطلقة لا تدرك عمداً رغم أزماتها المتفاقمة مضمون مقولة "أن شعبا يضطهد شعباً آخر لا يمكن أن يكون هو نفسه حراً ."

ومن جانب آخر فإننا نحن الفلسطينيين نعيش حالة من التشرذم منذ فترة تسبق السابع من أكتوبر بوقت طويل في ظل ما سببه الانقلاب من انقسام وغياب للوحدة الوطنية والانتخابات البرلمانية التي من المفترض أنها بالحد الأدنى تعزز من الصمود والمواجهة والمشاركة الأوسع والاحترام الدولي، وتسهل إدارة مفاوضات ترتكز على وحدة القرار خاصة المتعلق منها بما يسمى السلم والحرب، وعلى القوة وامتلاك الأوراق لا على الاستجداء، وعلى قاعدة وحدة الأرض والشعب وتفاصيل قضيتنا الوطنية الواحدة، وعلى ما استجد من تعاظم التضامن الدولي الشعبي وحتى الرسمي مع شعبنا بعد السابع من أكتوبر الذي لن يكون فيه الزمن القادم كما قبله.

في السنوات الأخيرة، هناك استراتيجية أوسع للولايات المتحدة من مجرد إدارة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي دون إيجاد حلول جادة وحقيقية لأساس الصراع المتمثل بالاحتلال الاستيطاني. حاولت الولايات المتحدة تحت إدارات مختلفة دفع ما تطلق عليه عملية السلام بيننا وبين إسرائيل من وجهة نظرها لكن دون تحقيق أي نتائج سوى تدوير اللعبة، لتحقيق استراتيجيتها بتجاهل الحقوق التاريخية والسياسية الوطنية لشعبنا. اتفاقيات أوسلو وما تبعها في كامل ديفيد و واي ريفر وغيرهم على سبيل المثال، رغم أنها بدأت كمرحلة انتقالية نحو اتفاق سلام، انتهت بتكريس الاحتلال الإسرائيلي وزيادة الاستيطان بدلاً من إنهائه بغض النظر عما ممكن اعتباره إنجازاً لنا وهو متواضع خاصة بشأن عودة العديد من أبناء شعبنا وبدء عملية بناء مؤسسات وطنية، ووصول حالة السلطة الوطنية إلى واقع دون سلطة.

واليوم تعمل الولايات المتحدة في شأن موضوع عدوان الإبادة والتهجير بحق شعبنا وفق معادلة هي شريكة بها تعتمد في شقها الأول على ما حققه الاحتلال من جعل غزة مكاناً غير قابل للحياة، وتدهور وضع إسرائيل إلى أعماق جديدة من الأزمات الداخلية المتضاعفة وتدهور مكانتها أمام العالم كشق المعادلة الثاني.

وبالرغم من وجود تباينات شكلية في أداء الإدارات الأمريكية المختلفة إلا أن جميعها عمل من أجل تنفيذ استراتيجيتها وفق المتغيرات الدولية الجارية من أجل تحقيق مصالحها بمناطق العالم وبالمنطقة المتعلقة برؤية الشرق الأوسط الجديد الذي يضمن استمرار الهيمنة على كل مقدرات منطقتنا بل وبالإطار الأوسع جغرافياً وحماية إسرائيل والاضرار بكل القوى المعادية لسياساتها بالإقليم وعدم السماح لها بالنمو والتطور أمام محاولة تطويع قوى أخرى تحت مطالب التغيير والتجديد، تختلف في جوهرها ومقاصدها عن المطالبات الصادرة من جهات وطنية حريصة لتطوير أداء منظمة التحرير في إطار التأكيد على استمرارها كممثل شرعي وحيد وبما لها من تراث كفاحي ومكانة تمثيلية بالمحافل الدولية وأمام العالم   .

واليوم وفي ظل تعقيدات المفاوضات الجارية حول وقف العدوان في إطار صفقة يتم التوصل لها حول انسحاب الاحتلال من غزة والأسرى ومستقبل إدارة قطاع غزة، تتزايد التكهنات حول تأثير التوجهات السياسية لكل من إسرائيل، الولايات المتحدة، والأطراف الإقليمية كما وتتضارب الأنباء بخصوصها .

فمن جهته أعتقد أن نتنياهو يسعى إلى تعطيل المفاوضات مع حماس في الوقت الحالي والإبقاء عليها في ذات الوقت، لأسباب سياسية واستراتيجية، حيث يواجه نتنياهو ضغوطاً سياسية داخلية والاقتراب من التحقيقات والمحاكم في حال انتهاء العدوان، بما في ذلك وجود معارضة سياسية وتحديات أمنية أمامه. تأجيل وإعاقة المفاوضات قد يمنحه الوقت لتعزيز موقفه الداخلي وإظهار قوة وصمود أمام خصومه والاستمرار بالجرائم المرتكبة في غزة والضفة. بالإضافة إلى ذلك، فإن زيارته المرتقبة للولايات المتحدة وخطابه في الكونجرس بدعوة من الجمهوريين قد تكون جزءً من استراتيجية له لتعزيز الدعم الأمريكي بما فيه موقفه التفاوضي وما يمنحه ذلك من دعم سياسي قوي. ومن جهة أخرى فإن تعطيل المفاوضات قد يكون وسيلة لزيادة الضغط على حماس والمقاومة، لإجبارها على تقديم تنازلات أكبر إضافة إلى ما تقدمت به حماس خلال الأيام الماضية لتسهيل المفاوضات حرصاً على وقف العدوان بعد اتساعه وحجم الأضرار الغير محسوبة سلفاً، لإنجاح الصفقة وإمكانية استمرار وجودها كحركة سياسية بشكل جديد في مستقبل قطاع غزة الذي يتم الحديث عنه. يمكن أن تستفيد إسرائيل من هذا التأخير لتعزيز موقفها الأمني وتحقيق مكاسب استراتيجية أمنية رغم خسائرها البشرية والمادية وتفاقم أزماتها الداخلية .

كما وتبدو الإدارة الأمريكية ورئيسها جو بايدن غير مؤيدة لتعطيل المفاوضات، حيث تسعى لتحقيق تقدم يمكن اعتباره مكسباً سياسياً كإنجاز ديبلوماسي يعزز موقف الحزب الديمقراطي بالانتخابات القريبة، كما ويساهم في الحفاظ على علاقاتها مع حلفائها بمنطقتنا، وبما يحقق من استجابة لضغوطات أممية في محاولة لتعزيز صورتها الدولية المعمدة بمناهضة حقوق شعبنا وشعوب العالم  .

ومن الجانب الآخر، يبدو أن السلطة الوطنية الفلسطينية تتعرض لتهميش في المفاوضات الجارية من مجموع اللاعبين المشاركين، مما يعقد الوضع السياسي الفلسطيني الداخلي والإضعاف المتعمد لدور المنظمة. الخلافات المستمرة حتى الآن بين حركتي فتح وحماس يُضعف من تأثير السلطة الوطنية الفلسطينية في غزة، ويحد من قدرتها على التأثير في المفاوضات التي غُيبت عنها بالأساس على إثر الطريقة التي تعاطت معها مع بداية مجريات العدوان وفق حديث بأن ما يجري بغزة لا شأن لنا فيه فغيبت هي نفسها. حيث أن بعض الدول الإقليمية مثل مصر والإمارات وقطر وحتى السعودية تلعب دوراً أكبر في الوساطة، مما يحقق لهؤلاء اللاعبين الآخرين أدوارهم بالمنطقة مع الولايات المتحدة وحتى مع إسرائيل.

في ظل هذه المعطيات وورود لأسماء فلسطينية حديثا ليكون لها دوراً بالمعادلات الجارية وفق المصادر الإعلامية، هناك عدة سيناريوهات يمكن أن تتبلور في الأيام القادمة بناءً على تفاعل هذه العوامل. قد تزيد الإدارة الأمريكية من ضغوطها على إسرائيل لاستئناف المفاوضات، مما قد يؤدي إلى توافقات مرحلية بين الأطراف المعنية. فقد توافق إسرائيل على استئناف المحادثات بشكل محدود، مما يسمح بالتقدم في بعض القضايا مع تأجيل القضايا الحساسة بما فيها إصرار نتنياهو على عدم وقف العدوان والانسحاب الكامل واستمرار السيطرة على معبر رفح وبعض المفاصل. وإذا رفضت إسرائيل الضغوط الأمريكية، قد يستمر الجمود الحالي، مما يزيد من تصعيد مخاطر السياسات العدوانية الإسرائيلية وخاصة على الجبهة اللبنانية والضفة الغربية والاستمرار بها في غزة أيضاً كما حصل في مجزرة المواصي اليوم.

يبقى التوصل إلى اتفاق حول إدارة قطاع غزة بدون إشراك السلطة الوطنية الفلسطينية بشكل فعّال سيناريو محتملاً، رغم أنه يحمل تعقيدات ومخاطر متعددة. إذا تمت المفاوضات بين إسرائيل، الولايات المتحدة، وبعض الأطراف الإقليمية مثل مصر والإمارات وقطر وحتى السعودية، فإن السيناريو الذي يشمل تعاوناً بين حماس وبعض الأشخاص التي تبرز أسمائهم قد يكون مطروحاً وفق ما أوردته عدد من مواقع الاعلام خلال اليومين. في هذا السياق، يمكن لهؤلاء الاشخاص أن يلعبوا دوراً وسيطاً مستفيدين من دعم دولة الإمارات ومصر. حماس قد تكون مستعدة للتعاون مع هؤلاء الاشخاص إذا كان ذلك يضمن استمرار سيطرتها على غزة لكن بشكلها الجديد ويجلب موارد مالية ودعماً دولياً. ومع ذلك، قد تواجه السلطة الوطنية الفلسطينية هذه الترتيبات بمعارضة شديدة من جانبها، مما يعمق الانقسامات الداخلية ويعقد الجهود المستقبلية لتحقيق وحدة وطنية منتظر البحث بها للمرة الألف في الصين .

في النهاية، تظل المفاوضات حول مستقبل إدارة غزة معقدة ومتعددة الأبعاد، مع وجود العديد من اللاعبين المؤثرين والمصالح المتباينة. تعطيل نتنياهو للمفاوضات، ودور الولايات المتحدة، والتحديات التي تواجه السلطة الوطنية الفلسطينية من حصار مالي ومحاولة تقويض دورها، واحتمالات تدخل شخصيات أخرى أو ما تم الحديث عنه لإرسال قوة أمنية من 2500 عنصر، كلها عوامل تساهم في تشكيل مستقبل القطاع المعقد.

إن تحقيق تقدم في هذه المفاوضات يتطلب توازناً دقيقاً بين الضغوط الدولية والإقليمية، والمصالح السياسية الداخلية لكل من الأطراف المعنية لتحقيق استقرار طويل الأمد، حيث ينبغي على الأطراف المعنية البحث عن حلول شاملة تعالج الأسباب الجذرية للصراع والمتمثلة ببحث الموضوع الفلسطيني كوحدة واحدة نحو إنهاء الاحتلال أولاً، بمشاركة جميع الفصائل والقوى الفلسطينية تحت عنوان منظمة التحرير بشكل فعال من خلال مفاوضات برعاية دولية ترتكز على القانون الدولي والقرارات الأممية، ولحين ذلك يجب أن ترتفع تكلفة الإحتلال باضطراد .

Loading...