النقد السياسي هو أقل شيء عرفته الحركة الوطنية الفلسطينية، في عمرها المديد (ستة عقود) في تجاربها المكلفة والخائبة، في الخارج والداخل، في حين أن النقد من النوع الثاني، أي النقد الفصائلي، والسطحي، هو السائد.
ربما في هذا العنوان نوع من القسوة، أو التجنّي، إزاء فصائل تحكمت طوال ستة عقود بالحركة الوطنية للشعب الفلسطيني، لكنه مجرد توصيف للواقع الذي هو أمر من ذلك، لا سيما على ضوء الإخفاقات العديدة والمتكررة، بمحصلاتها الكارثية، لحركة وطنية كانت حققت معظم إنجازاتها الوطنية التاريخية، في السنوات العشرة الأولى لانطلاقتها، أي منتصف السبعينيات.
الفكرة الأساسية هنا تفيد بأن تحريم النقد السياسي، أو التشكيك فيه، هو بمثابة إعدام للسياسة، التي تقوم على التداول والتعددية والفعالية والمسؤولية والمشاركة، وحجبها، أو احتكارها، في قبضة فرد أو مجموعة أفراد، وضمن ذلك رفعها إلى مصافي المقدس، الديني أو الدنيوي، علماً أن ذلك يشمل اعتبار القيادات بمثابة أصحاب رسالة منزلة من السماء، لا يمكن نقاشها، أو الاعتراض عليها، ما يعني تالياً تجنيبها المساءلة والنقد والمحاسبة.
معنى ذلك أن النقد السياسي، كبديهة، هو جزء عضوي، ومشروع، من العمل السياسي، وهو ضروري لترشيد الحياة السياسية، والتعبير عن الفعالية، والحيوية، السياسية لأي حزب، ولأي حركة تحرر وطني مسؤولة إزاء تضحيات شعبها.
ما تقدم يفترض التمييز بين النقد السياسي، والنكايات السياسية القائمة على الحسابات الشخصية، والعقليات التنافسية الضيقة، وتبادل الاتهامات، وحتى الشتائم، التي تضر؛ وهذا هو الأغلب في التجاذبات الفلسطينية، طوال مسيرة الفلسطينيين الكفاحية، المريرة والمضنية.
وللأسف فإن النقد السياسي، بالمعنى الأول، هو أقل شيء عرفته الحركة الوطنية الفلسطينية، في عمرها المديد (ستة عقود) في تجاربها المكلفة والخائبة، في الخارج والداخل، في حين أن النقد من النوع الثاني، أي النقد الفصائلي، والسطحي، هو السائد.
من يناقش الخيارات الكفاحيّة ؟
هكذا، لم يقم الفلسطينيون، ولا حركتهم الوطنية، ولا مرة، بمساءلة القيادات، أو مراجعة التجربة، أو مناقشة الخيارات السياسية والكفاحية، في الأردن أو لبنان، أو الأرض المحتلة، وينطبق ذلك على مشكلات مسيرة المفاوضات أو الانتفاضات، وتجربتي الكفاح المسلح والتسوية، وبناء المنظمة أو السلطة أو الفصائل، أي أن شيئاً من ذلك لم يحصل رغم كل الإخفاقات، في التجارب المذكورة.
أيضاً، فإن مشروعية النقد، وضرورته، تنبع من حقيقة مفادها أن العمليات السياسية هي ظاهرة يديرها أفراد، وهؤلاء كبشر غير معصومين من الخطأ، مما يفترض إخضاع خطاباتهم وممارساتهم، وبخاصة خياراتهم السياسية والكفاحية، للمراجعة والنقد والمساءلة، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بقضية على غاية التعقيد والتركيب مثل القضية الفلسطينية.
مثلاً، وفي موضوع راهن، وبالغ الحساسية، ثمة سؤال عن جواز انتقاد قيادة “حماس”، على خيارها المتمثل بهجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، الذي استجر حرب إبادة إسرائيلية، تسببت بنكبة مهولة لفلسطينيي غزة، والتي تهدف أيضاً إلى ترويع كل الفلسطينيين من النهر إلى البحر وإخضاعهم، كأن إسرائيل كانت تحضر نفسها، لا سيما مع حكومة يمينية متطرفة، لهذا الوضع.
على ذلك، ومع التقدير للمقاتلين الذين ضحوا بأرواحهم، فإن النقاش، أو النقد، هنا ينصبّ على خيار قيادة “حماس”، في الهجوم بالشكل الذي حصل عليه، وبالروحية التي وقفت خلفه، وقد تمثلها خطاب محمد الضيف (قائد كتائب القسام) والتي تبين أنها لا تستند إلى موازين القوى، ولا إلى المعطيات الفلسطينية والعربية والدولية، بقدر ما استندت إلى عقلية قدرية، ومراهنات ليست في محلها، سواء على ما يسمى “وحدة الساحات”، التي لم تشكل عائقاً أمام قيام إسرائيل بتدمير غزة، أو على مشاركة الناس في العالمين العربي والإسلامي، وضمنه في الضفة ومناطق 48، إذ إن هذا التمني منفصم تماماً عن الواقع، ولم يحصل البتة.
القصد هنا أنه ثمة خيارات أخرى للمقاومة، وضمنها المقاومة المسلحة، وفي النتيجة فإن ما حصل لم يجنّب القدس الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية، بل زادها، ولم يضعف الاستيطان بالضفة الغربية، بل إن ذلك حول المستوطنين الى ميليشيات مسلحة تعتدي على القرى والبلدات الفلسطينية، أكثر بكثير من قبل، أما تبييض السجون الإسرائيلية من الأسرى الفلسطينيين، فقد تلاشى، إذ إن إسرائيل اعتقلت اضعاف المعتقلين والأسرى السابقين.
وكانت تجربة مشاركة صواريخ “حماس” إبان الهبة الشعبية في الشيخ جراح (2021) أدت إلى إجهاض الهبة الشعبية، التي شارك فيها الفلسطينيون من النهر إلى البحر، ولعب فيها فلسطينيو 48 دوراً رائداً، أكثر من أية مرة سابقة.
سابقاً، ومنذ الانسحاب الأحادي لإسرائيل من قطاع غزة (2005) كان ثمة نقاش في شأن تحويل القطاع إلى نموذج لمجتمع فلسطيني مستقر ومنتج، وكنموذج أفضل لدولة فلسطينية مقبلة، بدلاً من جعله، بعد حصاره، بمثابة حقل رماية لمدفعية إسرائيل وصواريخها وقنابلها، الذي جعلت منه في عدة حروب، وضمنها الحرب الراهنة، مجرد قطعة خراب، يعيش فيها أكثر من مليوني فلسطيني، بدون أي مقومات للعيش، باستثناء ما يأتي من مساعدات.
هذا يفيد أن الأولوية، في الظروف الفلسطينية والعربية والدولية الراهنة، غير المواتية، هي لصمود الشعب الفلسطيني في أرضه، وبناء مؤسساته الوطنية، وتأمين مقومات صموده في التعليم والصحة والعمل وبناء الاقتصاد، ربما في انتظار ظروف أفضل، أو أنسب.
أزمة السلطتين !
على أية حال فإن تحريم النقد السياسي، يعني إخراج القيادات الفلسطينية من دائرة المراجعة والنقد والمساءلة، وهذا ينطبق على “فتح” و”حماس” والجبهات. مثلاً، فإن قيادة “فتح”، وهي قيادة المنظمة والسلطة، تشهر ذاتها كقيادة شرعية للشعب الفلسطيني، لتبرير تفردها، وتبرير الخيارات التي تنتهجها، سواء اتفاق أوسلو (الناجم عن مفاوضات سرية) أو احتكار تشكيل المجلس الوطني، أو إجراء الانتخابات أو حلها، فما ينطبق على “فتح” ينطبق على “حماس”، وبالعكس، والاثنتان سلطتان، يملك كل منهما الموارد ووسائل القوة والعلاقات، التي تمكن كلاً منهما من فرض ما يريد، بحكم هيمنته على الشعب، مع افتقاد العلاقات الديمقراطية والمساءلة والنقد والتداول والانتخاب، ومع الافتقاد لاستراتيجية كفاحية متفقاً عليها، تصب في رؤية وطنية جامعة، تطابق بين الشعب والأرض والقضية والرواية التاريخية.
والمعنى فإن تحريم النقد يعني إدخال “حماس”، وقيادتها، في دائرة المقدس، الذي لا يجوز الاقتراب منه، أو نقده، على غرار ما يحاول فرضه “حزب الله”، إزاء اللبنانيين والدولة اللبنانية، علماً أنه يشتغل كذراع إقليمية لإيران، وليس لمصلحة الشعب اللبناني.
وباختصار، فإن هذا النقاش يأخذ في الاعتبار أن تجربة “حماس” في السلطة في غزة، لم تكن أفضل من تجربة “فتح” في الضفة، ثم إنها في تجربة المقاومة بالغت بدور قطاع غزة المحاصر، ولم تأخذ بالاعتبار حدود قدراته، وموازين القوى، والمعطيات العربية والدولية غير المواتية، كأن المقاومة هي غاية في ذاتها، وليست وسيلة لتحقيق أهداف سياسية، ممكنة، ومستدامة، لا سيما بتحولها عن انتهاج المقاومة، إلى انتهاج الحرب كجيش لجيش، وكصاروخ لصاروخ، وفقاً لروح قدرية، وبالاستناد إلى تحالفاتها مع قوى مثيرة للشبهات، في العالم العربي، من دون النظر إلى دور إيران وميلشياتها في تخريب بلدان المشرق العربي من العراق إلى سوريا ولبنان واليمن.
المساءلة والإرشاد
سؤال قيادة “حماس” عن خياراتها السياسية وتحالفاتها وعن خياراتها الكفاحية، ونقدها، ليس للتقليل من شأن هذه الحركة ودورها، وإنما لترشيد سياساتها، وخياراتها، وأيضاً، لأن تقديس تلك الخيارات يعني من الجهة الأخرى، عدم مساءلة قيادة “فتح”، وهي قيادة منظمة التحرير والسلطة، عن خياراتها السياسية والكفاحية، أيضاً.
وأخيراً، فإن هذا السؤال موجه إلى كل الفلسطينيين، فهو يفتح على واقع تردي الحركة الوطنية الفلسطينية، التي هي، رغم عمرها المديد، وتجاربها الغنية والمكلفة، ما زالت تتخبط بسبب افتقادها لرؤية وطنية جامعة تطابق بين الأرض والشعب والقضية والرواية التاريخية، للفلسطينيين من النهر إلى البحر، وافتقادها أيضاً لاستراتيجية كفاحية ممكنة ويمكن استثمارها في إنجازات سياسية، ولكيان وطني جامع، يمثل الفلسطينيين ويعبر عنهم.