تقول النظرية المعروفة في العلوم السياسية، إن هدف الدول من تشكيل جيوشها، ينقسم إلى هدفين فرعيين، الأول هو ردع من يحاول التحرّش بالدولة والاعتداء عليها، والثاني: التهديد باستخدام القوة العسكرية لتحقيق مصالحها وطموحاتها. ومن هنا فإن لجوء الدولة الفعلي لاستخدام القوة العسكرية، حسب هذه النظرية الصحيحة، هو إثبات عملي لفشل سياسة الدولة المعنية.
وما ينطبق على دور الجيش، في تعامله مع أعدائه وجيرانه، ينطبق على قوات الشرطة في كل دولة، في تعاملها مع مواطنيها، وكلما كانت المخلفات التي تحررها الشرطة أكثر، كان هذا إثباتاً واضحاً على وجود خلل في قوانين الدولة وتخطيطها على الصعيد المدني.
استفاقت إسرائيل مذهولة من هول زلزال السابع من اكتوبر، الذي فضح زيف نظرية الردع الإسرائيلية، وأثبت بالفعل، أن المقاتلين والفدائيين الفلسطينيين، وقيادتهم الميدانية من حركة حماس، ومن الفصائل الفلسطينية الأخرى، غير «مردوعين» من جيش إسرائيل، رغم كل ما يملكه من أسلحة وعتاد وتقدم تكنولوجي، واعتباره الأقوى بين جيوش المنطقة، وتصنيفه كرابع أو خامس أقوى الجيوش في العالم.
تقول حكمة بريطانية قديمة ما معناه، إن من يحمل مطرقة يصاب بلوثة الاعتقاد أن كل مشكلة تواجهه هي مجرد مسمار، وأن الضرب بالمطرقة هو الحل.
مشكلتنا مع رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، أنه ما زال يعيش جيل المراهقة السياسية، ويتعامل مع جيشه على أنه مطرقة في يده، وأنه يتعامل مع قضية شعبنا الفلسطيني وكأنها مجرد مسمار.
هذا الخَبَل في السياسة الإسرائيلية، دفعها في ساعة جنون لعقل إجرامي غير سوي، إلى ضرب غزة وأهلها، (واللاجئين إليها منذ النكبة) بمطرقة الجيش الإسرائيلي، بحقد فاق كل ما سبقه، استهدف المدنيين من أطفال ونساء وكبار السن، وهدم كل ما يمكن هدمه، مع تركيز على المدارس والمعاهد والجامعات، والمستشفيات، وكل ما له علاقة بالبنية التحتية من شوارع وطرق وخطوط الماء والكهرباء والمجاري، رغم أن كل تلك «الأهداف» غاية في التواضع، وتحتاج إلى ترميم وتطوير وإصلاحات جذرية، بل ولإعادة بناء ايضاً.
لكن كل هذا العنف الإسرائيلي، بكل ما فيه من دموية وإجرام وحقد، ووجه بصمود وتحدٍّ، وأكثر من ذلك: ووجه بِردٍّ وكمائن عسكرية، وعمليات أذهلت إسرائيل وجيشها وكل المتابعين في العالم.
قد لا يعادل معجزة زلزال السابع من اكتوبر إلا معجزة التصدي المتواصل، على مدى الأشهر التسعة الماضية، لجيش الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي، وتكبيده خسائر فادحة في الأرواح والإصابات والمعدّات، فاقت، بما لا يقاس، كل تقديرات جيش إسرائيل وقادتها ومواطنيها، وكل المتابعين للحرب الدموية الإجرامية على غزة. إضافة إلى ذلك، فإن المستعمرات والمدن الإسرائيلية في ما تسميه إسرائيل «غلاف غزة» تتعرض يومياً، حتى الآن، لصواريخ المقاومة. وكشف عاموس هَرئيل، المحرر العسكري لجريدة «هآرتس» أمس، الأربعاء أنه «لا تزال حماس تتمتع بالقدرة على إطلاق الصواريخ على تل أبيب والقدس، ولكن أقل مما كان عليه الوضع في بداية الحرب».
واضح أن سر هذا الصمود، وسر مواصلة التصدي للجيش الإسرائيلي وتكبيده الخسائر، يعود إلى فلسفة اعتماد حفر شبكة الأنفاق في قطاع غزة. هذه الحقيقة تدفعني إلى التحدث عن مصر وشبه جزيرة سيناء المصرية:
تعرضت مصرعلى مدى تاريخها، منذ أيام الفراعنة، قبل ما يزيد على خمسة آلاف سنة، وحتى الآن إلى محاولات لا تحصى من الحروب والغزوات، كانت في غالبيتها العظمى من الشرق، ونسبة ضئيلة من الشمال، وهي الغزوات من شواطئ البحر الأبيض المتوسط. ماذا لو استفادت مصر وجيشها من تجربة «أنفاق غزة القتالية»؟. إذا كانت أنفاق غزة تقاس بمئات أو آلاف قليلة من الكيلومترات، التي حفرت بالأيدي وبمعدات بالغة التواضع، فإن بمقدور جيش مصر أن يحفر عشرات آلاف الكيلومترات من الأنفاق العسكرية والقتالية على طول وعرض شبه جزيرة سيناء، تحمي مصر ومستقبلها، على مدى الزمن المفتوح، من أي أطماع وتفكير على تعريض أمنها من جهة الشرق.
نعود من الحديث عن مصر إلى الحديث عن وضعنا الفلسطيني، في ظل حرب إسرائيل على غزة، بكل ما لها أسلحة تدمير، وعلى الضفة الغربية (والقدس الشرقية منها) بجيشها وبشرطة حرس الحدود وقطعان مستوطنيها السائبة، وقرارات وزرائها العنصريين المهووسين، وكل حكومتها، الخاصة بتدمير مخيمات شمال الضفة الفلسطينية أساساً، وهدم البيوت، وتكثيف الحواجز، ومصادرات الأراضي والاعتقالات التي فاقت اعتقال أكثر من أربعة آلاف معتقل منذ السابع من اكتوبر حتى الآن وكذلك ما يتعرض له الفلسطينيون في مناطق الـ48، من ترهيب، ومن تجاهل، وربما من تشجيع وحماية لعصابات إجرام وإفساد.
ليس أمام إسرائيل لتمديد عمرها إلا واحد من خيارين:
الأول: التقدم على طريق الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وإقامة دولته الفلسطينية، كاملة السيادة، على أراضي فلسطين على حدود خطوط الهدنة لسنة 1949، باعتبار ذلك الخطوة الأولى على طريق الحل السلمي، تليها مرحلة كونفدرالية فلسطينية إسرائيلية، (وربما أردنية أيضاً). وهذا ما قد يطيل عمر إسرائيل، (بصيغتها وشكلها الحالي) بضعة عقود قليلة، تنتهي بإقامة فدرالية فلسطينية إسرائيلية، (وربما أردنية أيضاً).
الثاني: ضم الضفة الغربية، (والقدس الشرقية منها) وقطاع غزة، بموجب ما تحدث عنه الرئيس الإسرائيلي السابق، رئوفين (روبي) ريفلين، (وهو اليميني المعتدل) الذي اقترح ذلك، مشروطاً بإعطاء جنسية الدولة الواحدة من النهر الى البحر، إلى جميع سكان الضفة الغربية وقطاع غزة الفلسطينيين خلال 25 سنة، على مراحل، تبدأ المرحلة الأولى بعد عشر سنين من ذلك القرار. وهذا ما قد يطيل عمر إسرائيل، (بصيغتها وشكلها الحالي) لعقد واحد أو يزيد قليلاً.
كان الاعتقاد الإسرائيلي أن إسرائيل ستزول من الوجود، في حال خسارتها للحرب، صحيحاً جداً حتى العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956. أصبح هذا الاعتقاد مشكوكاً فيه عشية حرب 1967، وأصبح غير صحيح بعد تلك الحرب المشينة، ثم أصبح مستحيلاً بعد ذلك، وبعد أن أصبح عدد اليهود في إسرائيل هذه الأيام بحدود 7.5 مليون نسمة.
أذكُر أن جريدة «هآرتس» نشرت لي مقالاً في عددها يوم 10.8.2006، إثر هزيمتها في ما تسميه «حرب لبنان الثانية» وكان المقال بعنوان «مبروك إسرائيل» وكان فحوى المقال، وفكرته، هو: ها هي إسرائيل خسرت الحرب وما زالت باقية ولم تزُل.