كتب الصديق زعل أبو رقطي في إحدى قصيصاته الممتعة، "نكتب، لنُخرج الصمت الذي بداخلنا، ونحوله إلى صراخ وضجيج يخترق الكون.. يا صمتنا المغلوب على أمرك.. لقد تعبتُ واتعبتنا"
لربما ما قاله الأخ العزيز أبا فراس هو أحد الأسباب التي تدعوني للكتابة المتواصلة هذه الأيام الصعبة، لمحاولة إثارة بعض القضايا أو إبداء الرأي الذي يحتملُ الخطأ أو الصواب في غياب المطلق، أو لأنني أيضاً أريد الصراخ لربما هنالك من يسمع لاجتهاد بالرأي من هنا أو هنالك يكسر به حاجز الاعتقاد باحتكار المعرفة والحقيقة، أو لأنني أكره الصمت من جهة أخرى، فاصرخ مع غيري حتى لا يبقى أمراً مغلوب على نفسه، فيصبح الكلام انتصاراً للرأي والحق.
اليوم، وأمام كل ما يجري بنا ومن حولنا، كثيراً ما يَجنَح بنا الوهم، فنتمادى في تضليل أنفسنا وأنا لست من غيرهم، قبل أن نُمعن في خداع الآخرين غير متمتعين بفضيلة الصدق والصراحة، عاجزين بالمطلق عن الاعتراف بالخطأ، وتحمل المسؤولية التقصيرية عن ما وصلت له الأمور ومن عدم مراجعة الزمن الذي رافقنا. ونُصر على تمويه الحقائق والتلاعب بالصورة، محاولين إخفاء عيوبها، عاملين على تجميلها مهما بلغت درجة قُبحها، أو على تزوير الحقائق الجميلة حتى تظهر قبيحة للغير. فباتت تصرفاتنا أحياناً مرتبطة بمجتمعاتنا غير الناهضة في بعض جوانبها، بما فيها من مظاهر عنف وكذب وفساد وبطالة وجريمة، رغم وجود ما هو مشرق بجوانب أخرى منها التي تواجه بالإحباط أحياناً لاصطدامها بجدار احتكار الحقيقة حتى ولو لم تتسم بها.
نُحب أن نُصدق بأننا الأفضل والأنقى والأكثر براءة والأنصع بياضاً من بين الجميع أو حتى أحياناً من شعوب الدنيا. ويطرح كلٌ منا نفسه في المنابر كإبن أو أبناء بيئة فاضلة خالصة من الشوائب، وكأفراد ينتمون إلى مجتمعات أو فئات على مختلف تكويناتها تتميز بثقافة بالغة الطُهر والعفاف والمثالية، خالية من كل آفات العصر وشروره، فتتظاهر كل فئة أو مجموعة أنه ليس بينها من هو منحرف أو قاتل أو لص أو خائن أو متكسب أو مخادع أو كاذب، الكل فيها عبارة عن كائنات مثالية، تعيش في وئام وتصالح، بالغة الطيبة أقرب إلى الملائكة لشدة كمالها، ولا ينقصها سوى أجنحة كي ترفرف بها هائمة بين الرضا والنور!
وكل ما يخص أية مجموعة وإن كانت سياسية، اجتماعية أو تنظيمية كثقافة وسلوك هو فوق النقد، وبالتالي فإن أية ظاهرة جديدة يتم الاصطدام بوجودها، يتم اعتبارها مستوردة أو كافرة ودخيلة علينا وعلى منظومة قيمنا وأعرافنا أو تمثل أجندة خارجية. فنحن في أي مجموعة أو فئة نعتقد أننا الأفضل والأصلح حالاً في كل الظروف، لا نتقبل أحياناً ابداع أحد واجتهاده، لأن الضعفاء منا يخافون ذلك فيتم محاصرة نجاحه وقتل أفكاره وأبداعه، حتى أننا لا نترك مجالاً للإيمان، بأن من يعمل ويخطئ فله أجر ومن يصيب فله أجران.
والغريب أن الكثير من تلك المجموعات الإنسانية أو الفئات بمختلف مسمياتها احترفت الخيبة وكررت التجارب وراكمت بعض الهزائم المتلاحقة عبر التاريخ التي اعتقدت بها نجاحات، رغماً من بعض المكتسبات التي كان يجب المراكمة عليها فتركت ولم تستكمل. فهي أي بعضاً من تلك الفئات ما تزال تملك الجرأة من النفاق كي تُشعر نفسها بالتفوق والتميز عن الآخرين، ولا يختلف حالنا في هذا السياق عن النعامة التي تغطي رأسها في الرمل متوهمة أنها تحقق الأمان.
في حين أن نَظرة تتضمن قدراً من الجرأة والموضوعية، تقودنا إلى الاعتراف بأن كثيراً من تلك الظواهر المؤسفة التي أصبحت واقعاً حياتياً مرعباً، هي ليست غزواً ثقافياً دخيلاً اقتحم حصوننا التي اعتقدنا أنها منيعة وعاثت في عقول وضمائر الناس فساداً وتخريب، بل هي نتاج محلي بامتياز وببراءة اختراع محلية، كان بإمكاننا أن لا نصنعها أو لا نسمح للغير بأن يروجها بيننا، رغم معرفتنا بأن القلاع والحصون تُهدم من داخلها .
من هنا لابد أن نوسع دائرة التأمل والصدق مع الذات وفي حماية قلاعنا طالما ارتضينا أن نعيش جميعا في هذا الوطن الذي لا نملك سواه، وبضرورة الشراكة في ظل الإختلاف، كي نَخرج من الزاوية الضيقة التي ننظر إلى الآخرين وإلى العالم من خلالها، ويكف كلٌ منا عن طرح نفسه بهذا الشكل غير الواقعي كصاحب الحقيقة المطلقة.
واعتقد هنا أنه لا بأس من إحداث صدمة أحياناً، وإعادة النظر في طريقة تفكيرنا كي نَتَنبه لما يدور حولنا من متغيرات وما يُخطط له الأعداء المستعمرين منذ قرابة المئة عام لعلنا نستفيق من خدرنا وأحلامنا الوردية وندرك مسار الضرورة للأمور قبل فوات الأوان. وأن نبلغ درجة من الوعي والنضج الإنساني والفكري تؤهلنا مواجهة عيبونا ونقاط ضعفنا وهشاشة تركيبتنا من خلال الاعتراف بها أولاً ومعرفة من يعمل على هدم القلاع، كي نَشفى من تَبعاتها وكي لا نكرر أخطائها وكي لا نسمح بأن تهدم القلاع عن بكرة أبيها. وبالتالي نُسمي الأشياء بأسمائها، مُتَخلين على سبيل التغيير، عن هذه الازدواجية وهذه الباطنية التي تتحكم في سلوكياتنا بالكثير من الأحيان. حيث عندها فقط قد نستطيع التصدي لأمراضنا من تراجع إنساني خطير وطغيان بعض قيم السلبية، أو حتى مشاعر الحنين فقط لدى البعض لزمنٍ قد تغير دون إدراك خصوصيات الحاضر أو التغيير. إن ما ساهم به الاحتلال بطرق مختلفة من انعدام مظاهر الوحدة والتكافل والتضامن الاجتماعي وتلاشي مبدأ المحبة من القلوب الآيلة للجفاف، وتجاهل عذابات الآخرين ومعاناتهم أو التشفي بها في أسوأ الأحوال، أو سقوط البعض أحياناً في فخ الكراهية والأحقاد بين الأفكار والسياسة والأديان أحياناً وانتظار فرصة يرسمها الغير لنا لإحداث فتن سياسية، مناطقية، إقليمية، عشائرية أو دينية هدفها إشاعة عداء كلٌ للآخر وإثارة النعرات، تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية للمُستعمِر الغاصب قد لا نُدركها نحن في أوانها، كما لا يُدركها بعض المُدعين او الناطقين الذين يُلحقون الضرر بنا. هذا هو الخطر الشديد الذي يداهمنا الآن، فلندرك معاً الطريق الصحيح وأن مصالح البعض الخاصة أو الفئوية الضيقة لا تحقق مصلحة الوطن العليا، فما زال هنالك فرصة أمامنا حتى ولو ضاق الزمن بنا، لأن الزمن قيمة لا تنتهي، لإنقاذ شعبنا ومشروعنا التحرري الوطني الديمقراطي وفق قاعدة وحدة الأرض والشعب والقضية تحت عنوان سياسي واحد يتمثل باستقلالية القرار الواحد في زمن الحرب والسلم في إطار منظمة التحرير الفلسطينية كمكانة وعنوان ومكان وإطار تمثيلي شرعي أمام العالم، مع ضرورة فهم وإدراك هذا الإطار الذي تنتمي له جميعا للمتغيرات الدولية والمجتمعية المحلية فيمارس بالضرورة منهج وأساليب متجددة من العمل، ويدرك فوارق الأجيال أو تتابعها فيتعاطى معها دون اغفالها، فلكل زمن دولة ورجال، أمّا الوطن فيبقى في كل زمان. إطار يتجدد بحكم قوانين الطبيعة ومصالح الوطن ويعبر عن التاريخ والتراث الكفاحي الذي انشئت منظمة التحرير من أجله ولأجل غالي التضحيات التي دفع شعبنا ومعنا أحرار من العالم من أجل مكانتها ومكانها، وصونها من محاولات إسقاط القرار عليها ومصادرتها في مراحل مختلفة. لتكون المنظمة إطاراً وحدوياً لاستكمال قيادة مرحلة التحرر الوطني يتسع للجميع من أبناء شعبنا وفئاته الوطنية المختلفة السياسية والاجتماعية والأجيال الشابة بمنهج ديمقراطي يستمد قوته من الشعب الذي يجب أن يكون مصدراً للسلطات في كل الأوقات. هذا ليس حُلماً بل واقعاً ممكناً إن شئنا أن يكون، وليكن لقاء الصين في هذا الإتجاه، فالزمن لا ينتظر كثيراً. وحينها لن تنجح الصهيونية ومن بعدها إسرائيل الدولة الاستعمارية في إلغاء الحقيقة الفلسطينية من التاريخ والوجود .