بقلم: طلال عوكل
مئة يوم مرّت كانت الحرب الأطول والأكثر بشاعة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، ولا تزال مفتوحة على المزيد من الوقت الدّامي.
حرب، يعتبرها الإسرائيليون أنّها حرب الاستقلال الثانية، ويعتبرها الفلسطينيون بداية حرب التحرير، رغم أنّ هذا الكفاح لم يبدأ مع بداية هذه الجولة الكبيرة، التي لن يكون ما بعدها مثل ما كان قبلها.
وهي حرب يخوضها الحلف الاستعماري بقيادة الولايات المتحدة الأميركية لإنقاذ إسرائيل التي ولدت في رحم الدول الاستعمارية وأرضعتها بريطانيا، ثم انتقلت مهمّة رضاعتها ورعايتها إلى الولايات المتحدة بينما بقيت الدول الاستعمارية الأخرى تقدّم لها المزيد من الرعاية.
يدّعي نتنياهو أنّ إسرائيل تعرّضت لهجوم وحشي على حدودها الدولية من قبل الفلسطينيين، وكأنّ إسرائيل تعترف بحدود لها.
ينسى نتنياهو تحت وطأة اليأس والغضب أنّه من قدّم للعالم من على منبر الأمم المتحدة، قبل شهر من الحرب، خارطة لفلسطين كلّها على أنّها أرض الدولة الإسرائيلية.
الفلسطينيون هم من يتحمّل المسؤولية عن النتائج الكارثية التي تحلّ بهم حسب المنطق الاستعماري، بما يعطي الشرعية لدولة الاحتلال لأن تقوم بما تقوم به انطلاقاً من حقّها في الدفاع عن نفسها.
الولايات المتحدة، وأتباعها الأوروبيون، يؤيّدون حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها، ويتجاهلون حقيقة أنّهم والمجتمع الدولي بأسره، يعتبرون الضفّة الغربية والقدس وقطاع غزّة أراضي محتلّة يحقّ لأهلها الكفاح من أجل انتزاع حرّيتهم وحقوقهم السياسية التي أقرّتها الشرعية الدولية.
الكفاح الفلسطيني الشرعي هو إرهاب من وجهة نظر محتضني وداعمي المشروع الاحتلالي الاستعماري، أمّا ما تقوم به إسرائيل من إرهاب دولة عنصري فاشي، فهو دفاع عن النفس.
ثلاثة عقود مرت على توقيع اتفاقيات أوسلو، انتظر خلالها الفلسطينيون أن يحصلوا على حقوقهم من خلال المفاوضات، والكفاح السلمي، لكنهم لم يحصلوا سوى على المزيد من التغوُّل الاستعماري، وإنكار الحقوق.
الحرب على الشعب الفلسطيني لم تبدأ في 7 أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم، أم أنّ علينا أن نذكّر محامي الدفاع عن إسرائيل، بآلاف الأسرى الذين تحتجزهم وتنكّل بهم آلة البطش.
أم علينا أن نذكّر العالم بأسره، بما تقوم به إسرائيل، من مصادرة أراضي الفلسطينيين وزرع أكثر من سبعمائة ألف مستوطن في الضفة والقدس.
يترتّب على داعمي إسرائيل أن يتذكّروا ما وقع للمسجد الإبراهيمي وما يتعرّض له المسجد الأقصى، ودور العبادة الإسلامية والمسيحية، وأن يتذكّروا ما تقوم به الأجهزة العسكرية والأمنية وميليشيات المستوطنين في مدن وقرى الضفّة.
أرادت إسرائيل تهجير الفلسطينيين من القطاع وتوطينهم خارج أرضهم، حتى لو تطلّب الأمر ارتكاب أبشع المجازر، وقطع كلّ سبل الحياة الآدمية عن الناس انطلاقاً من أيديولوجية فاشية سوداء لا تعترف لأحدٍ بحقّ الحياة.
قبل أن تظهر معالم هذا الخطاب الوحشي خلال الحرب على غزّة، كان المنطق ذاته قد ظهر في الضفة حين دعا وزير المالية سموتريتش إلى محو بلدة حوّارة عن وجه الأرض.
أفلتت إسرائيل من العقاب كلّ الوقت، بالرغم من أنّ ملفّات جرائمها بحقّ الشعب الفلسطيني قد طفحت وتجاوز كلّ الحدود، فهي الدولة الأداة الوظيفية التي تكفّلت بحمايتها الدولة الأعظم التي تدّعي أنّها حارسة القيم الإنسانية وحقوق الإنسان.
منذ اليوم الأوّل، هرع مسؤولون في البيت الأبيض، وآخرون من بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وأحضروا معهم معدّاتهم الحربية، ليتشاركوا المسؤولية في «مجلس الحرب» الإسرائيلي، لكي يمسحوا القطاع ومن فيه من على وجه الأرض.
مئة يوم قلبت الطاولة، على رؤوسهم جميعاً وباتوا يبحثون عن مخارج لحربهم الفاشلة.
يقول جوزيب بوريل مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي: لقد حان الوقت لكي نتّحد ونتحمّل مسؤوليتنا لإنهاء الأعمال العدائية في غزّة، ونعمل معاً على تنفيذ «حل الدولتين».
أمّا بقية الجوقة، فقد أخذ صوتها يعلو لإدانة محاولات تهجير وتوطين الفلسطينيين، وضرورة تجنّب قتل المدنيّين، وإدخال المساعدات الإنسانية وتحوّل الموقف الأميركي، كما صدر على لسان أنتوني بلينكن نحو الدعوة لوقف الحرب بأسرع وقتٍ ممكن.
هذا التحوّل ما كان ممكناً، لولا صمود الفلسطينيين مقاومين وبشراً على أرضهم، وما كان ممكناً لولا الفشل الإسرائيلي المُريع، وحجم ونوع الجرائم التي ارتكبوها، وعادت عليهم بأضرار بالغة.
بعد مئة يومٍ من الحرب الاستعمارية البشعة يظهر الإسرائيلي على حقيقته، ويخضع للمرّة الأولى في التاريخ أمام عديد المحاكم الدولية.
ينهار المنطق الإسرائيلي، وفريق دفاعه في لاهاي أمام الحقائق الدامغة التي أظهرتها مجريات الحرب البشعة، وقدمها فريق جنوب أفريقيا.
أحد مراسلي «يديعوت أحرونوت» إلى «العدل الدولية»، كتب في اليوم التالي أنّ إسرائيل هُزمت شرّ هزيمة في المحكمة.
وتخضع إسرائيل كلّ الوقت وعلى نحوٍ متزايد، لمحاكمةٍ من نوع آخر، يشير إلى انتصار فلسطين كقضية وشعب أمام الرأي العالمي.
ملايين البشر في أميركا وبريطانيا وفرنسا، وألمانيا وإسبانيا وفي بقية دول أوروبا والعالم لم يتوقّفوا عن الخروج إلى الشوارع يحملون العلم الفلسطيني ويطالبون بمعاقبة إسرائيل ووقف الحرب.
وثمة محاكمة تبدو صامتة، تجريها الشعوب العربية والإسلامية التي تعمّق حقدها على الحلف الاستعماري، وستظهر نتائج هذه المحكمة في وقتٍ لاحق.
فلسطين اليوم تتصدّر المشهد العالمي دون مُنازع، وقد أصبح العلم الفلسطيني معروفاً على مستوى شعوب الأرض أكثر من العلم الأميركي وأيّ علمٍ آخر، كمظهر من مظاهر الانتصار الأكيد.