مقالات مختارة

حوار مع خالد الحروب بشأن المقاومة: نسير معاً ونختلف | سمير الزبن

 

تثير جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل المشاعر بحدّة، خاصّة عندما تُرتكب أمام أنظار العالم الذي يلتزم الصمت، معبّرة عن فقدان العدالة وكذب قيم العالم أمام مذبحة مستمرّة منذ عشرة أشهر تطاول الأبرياء، ولا يظهر أفقٌ لانتهاء (أو ردع) هذه الجرائم الاسرائيلية المُرتكَبة بحقّ الفلسطينيين في قطاع غزّة. وفي هذا السياق، يمكن فهم الصرخة التي أطلقها خالد الحروب في مقاله "تحريم نقد المقاومة الفلسطينية... من يُزايد على من؟"، في "العربي الجديد" (19/7/2024)، ولكنّها صرخة في الاتجاه الخاطئ. فإذا كان من المفهوم تأييد المقاومة، فيجب أن يكون من المفهوم نقدُها أيضاً. ليس لأنّه لا يوجد مُقدّس بشري فوق النقد فحسب، بل لضرورة هذا النقد ووظيفته في إلقاء الضوء على جوانب أخرى من الحدَث الذي يلعب دوراً في التأسيس للمستقبل أيضاً. وهو بذلك ليس ترفاً يمارسه الأشخاص الذين يسكنون أبراجاً عليا. ولا يمكن استخدام ذريعة أنّ من هو تحت النار وحده من له الحقّ في النقد، وعلى البعيد عن ميدان المعركة، الذي لا يكتوي بنارها، أن يخرَس أمام الدم المسفوك. كما أنّ النقد، في الوقت ذاته، من عوامل التوازن في أيّ ساحة سياسية مهما كانت المشكلات والقضايا التي تعيشها وتعاني منها. وهي ضروريةٌ أيضاً لمن يقبض على رقبة القرار ليبيّن لهم جوانب لا يرونها. كما أنّ من حقّ من يرى وجهة نظر مخالفة أن يقولها، ومن حقّ البشر، الذين يدفعون الأثمان، أن يعرفوا آراءَ أخرى بشأن الظروف التي يعيشونها. ومن حقّ النُقّاد وغيرهم أن يروا أيَّ قرار له تبعات قاسية على حياتهم لا يخدم الظروف الحالية أو لا يخدم المُستقبل.

لا يقع "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ولا حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بوصفها قوّةً سياسيةً اتخذت القرار بالهجوم، خارج النقد، فدائماً هناك خلاف على الأحداث التاريخية وتداعياتها، وليس على نُقّاد هذا الحدث التاريخي أن ينتظروا نهايته، أو ينتظروا ما تُسفر عنه التداعيات، حتّى يقولوا رأيهم في ما حدث أو يحدث. يتساءل الحروب: "لا يُقال لنا من هو الذي يُحرِّم نقد المقاومة؟ وكيف يُحرِّم ذلك؟". ليس من الصعب الإجابة عن هذا السؤال مثلما يعتقد الحروب. ليس تحريم النقد جديداً في الساحة الفلسطينية، وإن أخذ في ظلّ الحرب الاسرائيلية على قطاع غزّة حدّةً أكثر. لطالما حاربت أطراف الحركة الوطنية الفلسطينية، ومن قبلها سلطات عربية وصفت بـ"التقدّمية"، الأصوات الناقدة للتجربة من موقع "احتكار الوطنية"، فهي التي تُحدّد من هو الوطني ومن هو الخائن. وكان الخروج من الصفّ الوطني والدخول إليه قراراً قياديّاً. والتخوين هي الصيغة التخويفية التي تعتمدها القوى السياسية لتحريم نقدها. وقد استمرّ هذا الحال مع حركة حماس، وأخذ طابعاً أكثر حدّةً بربط القضية الوطنية مع الديني.
لا تختلف الصيغة التي يسوقها الحروب لمنع تحريم النقد عن الصيغة الفصائلية، سوى أنّ للفصائل أدواتها من قوى بشرية، ومن وسائل إعلام، وغيرها من المُؤسّسات لفرض خطابها، بينما ليس لدى الحروب سوى قلمه الذي يكتب فيه قائلاً: "في الحروب والمعارك الكبيرة ليس هناك مناطق رمادية: هناك العدوّ وهناك الذات الجمعية. من يقف في المنطقة الرمادية يقف عمليّاً مع العدوّ مهما كانت التبريرات. إسرائيل، وأميركا، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وكلّ سفلة العالم وأشراره، ومعها أنظمة التطبيع العربية، تريد القضاء على حركة حماس وكلّ المقاومة الفلسطينية. هذه هي الخريطة اليوم، وهذا هو الاصطفاف. الشامتون والمتشفّون والآملون بالتخلّص من المقاومة كلٌّ لأهدافه يقفون في المعسكر الآخر. عندما تنتهي الحرب، من حقّ الجميع أن يُحلّل وينتقد، ومن حقّ الشعب أن يُحاسب الجميع، وفي مُقدّمتهم المقاومة و(حماس) في خياراتها واستراتيجياتها من خلال انتخابات حرّة ونزيهة".
أعتذر من القراء على الاستشهاد الطويل، وتأتي ضرورته من أنّ الكاتب، في هذا المقطع الذي يختم به مقاله، يُلخص موضوع الخلاف كلّه بشأن النقد، فهو يُقسّم العالم إلى فسطاطين: فسطاط مع الحقّ، يعني مع المقاومة، التي تعني حركة حماس، وهو ما يُطلق عليه "الذات الجمعية"، وهذه الذات يجب أن تكون مُوحّدةً في مواجهة الفسطاط الذي مع العدوّ، وكلّ من هو ليس مع "الذات الجمعية" فهو مع العدوّ، فلا مناطقَ رمادية في صراعٍ كهذا. مشكلة هذه القسمة، أنّها تأتي في سياق الردّ على نقد المقاومة، والذين يُصنّفهم الحروب أنّهم يقفون في المنطقة الرمادية في لحظة الصراع الدموي المُحتدِمة، وبالتالي يخدمون العدوّ ولو بحسن نيّة.
لا يختلف الحديث عن "الحُروب والمعارك الكبرى" عن الشعارات التي رفعت لمنع أيّ نقد للسلطات في لحظات الحرب، مثلها رُفِعَ شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، ولطالما ادّعى القادة الفلسطينيون، في كلّ وقت، "أنّنا نمرّ في مرحلة خطيرة"، في كلّ مرّةٍ، كان الهدف منع النقد. ما يجري اليوم غاية في الخطورة، ولأنّه كذلك يجب نقاشه ونقده اليوم، وليس الانتظار حتّى يتوقّف العدوان وتنتهي الحرب، فالحربُ، في نهاية المطاف، شأنٌ من شؤون السياسة.
يقع الكاتب في مَطبّ المطابقة بين المقاومة وحركة حماس، كما يقع في مَطبّ المساواة بين المقاومة وشكل المقاومة المُسلّح، ويربط مصير المقاومة بنتائج هذه الجولة من الصراع، وكأنّ الصراع بدأ مع هذه الحرب، أو مع حركة حماس، أو مع "طوفان الأقصى". مسيرة المُقاومة الفلسطينية والصراع مع إسرائيل طويلة، ولن تنتهي مع نهاية هذه الحرب، مهما كانت نتائجها وتداعياتها، ولطالما اخترع الفلسطينيون مقاومتهم من العدم، لأنّهم يواجهون عدوّاً ذا طبيعة إلغائية.

إنّ واحدة من أهم مسؤوليات القادة، مهما كانت طبيعة الصراع وعنفه، سواء أكان صراعاً في وقت السلم أم في وقت الحرب، أن عليهم النظر إلى الأكلاف البشرية مقابل الإنجازات، وعليهم إدارة الصراع بأقلّ خسائر بشرية، فالسياسة، حتّى ولو كانت تدير قضية تحرّر وطني، عليها أن تكون حسّاسة للخسائر البشرية، ولذلك عليها تجنّب المواجهات الشاملة مع عدو قوي وعدواني ومُسلّح حتّى الأسنان. أمّا أن ينتظر المُنتقدون حتّى انتهاء الحرب، وعندها "من حقّ الشعب أن يُحاسب الجميع، وفي مُقدّمتهم المقاومة و(حماس) في خياراتها واستراتيجياتها من خلال انتخابات حرّة ونزيهة"، فمن السهل إلقاء الكلام، ولكن عن أيّ مُحاسَبةٍ يتحدّث الكاتب؟ وعن أيّ انتخاباتٍ حرّةٍ ونزيهة؟ وأيّ قطاع غزّة سينتخب بعد هذه المذبحة؟ ومن هي السلطة التي ستنظّم هذه الانتخابات؟ ومن الذي سيسمح بها؟ ومتى حاسب الشعب الفلسطيني القوى السياسية على أخطائها وخطاياها؟ لو كنا نستطيع إجراء انتخابات حرّة ونزيهة لما كان هذا حالنا، يا صديقي.
لا يعني نقد المقاومة نحرها أو الوقوف ضدّها، فهذا فهم ضيّق للسياسة، وللمقاومة أعداء، لكنّ نُقّادها ليسوا ضمن هذه الفئة، فالخلاف السياسي لأبناء القضية الواحدة لا يعني إلقاء الطرف الآخر في خانة الأعداء، وإلّا تحوّلت السياسة مؤامرةً، والجميع مُدانٌ مهما كانت الجهة التي يقف فيها، والجميع يخدم أجندة العدوّ مهما كان موقعه. ببساطة، يمكن نقد المقاومة ومن الموقع الوطني، ليس للمزاودة عليها، نسير معاً، ونختلف في النظر إلى ما آلت إليه الحال الفلسطينية.

 

عن العربي الجديد

كلمات مفتاحية::
Loading...