لا يمكن تجاهل حقائق الأشياء وطبيعة الحروب ونهاياتها، وهناك دوماً اليوم التالي الذي يلي الحرب لأن الآلة العسكرية منذ فجر التاريخ وجدت لصناعة السياسة وحقائقها، يختلف الأمر في حرب الإبادة في غزة في التفاصيل لكنه يتشابه في العموميات كجزء من سيناريوهات الصراعات ونتائجها.
اجتمع الفلسطينيون في بكين وتحدثوا عابراً عن اليوم التالي في بيانهم الذي حمل ما يكفي من لغة الإنشاء المترفة وسط سيل الدم، وهو بيان قديم أعاد قراءة نصوص ترجع لسنوات قادمة، لكن لم يكن اليوم التالي قضية مهمة، بنيامين نتنياهو في خطاب الكونغرس الديماغوجي تحدث عن اليوم التالي وتحدثت الصحف عن لقاء في الإمارات العربية بين ممثلي إسرائيل والولايات المتحدة والإمارات للحديث عن اليوم التالي .
بالنسبة لحركة حماس فإن اليوم التالي يشبه أي يوم انتهت فيه الحروب السابقة باتفاق تهدئة يوقف العدوان وتستمر بعده بحكم غزة وتبدأ عملية إعمار، لذا فهي تتحسس من أي حديث عن اليوم التالي، على قاعدة أن ذلك يعني إسدال الستار على حكمها للقطاع الذي استمر سبعة عشر عاماً وهذا خطها الأحمر، وإن كانت تفضل الاتفاق مع حركة فتح بحكم يتسم بالشراكة.
لكن حركة فتح هذه المرة ليست في عجلة من أمرها، والأهم من ذلك باتت السلطة تخشى الشراكة مع الحركة الإسلامية بعد السابع من أكتوبر وبعد التصنيف الذي أصبحته حماس "حركة إرهابية" والذي كرره نتنياهو على امتداد الحرب وأعاد تأكيده في خطابه في الكونغرس.
إذاً المسألة عالقة فلسطينياً، فلا السلطة ستعود لغزة بل ستراها من بعيد حسب قول وزير الخارجية الإسرائيلي، أما حماس ولأسباب كثيرة لن تستمر بحكم غزة. فنهاية هذه الحرب لا تشبه النهايات السابقة والتزامات ما بعد هذه الحرب أكبر كثيراً من قدراتها، والرأي العام بغزة شهد انزياحاً في غير صالح حكمها بعد هذه الحرب.
هذا يعني استمرار الحرب حسب ما لم يعد خافياً في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين وآخرها ما قاله نتنياهو في واشنطن، والحقيقة أن هناك محاولات عديدة للبحث عن حلول، وجميعها لا يمكن النظر إليها باعتبارها مسلماتٍ قبل أن تضع الحرب أوزارها، لأن النهايات عادة تكتب ما بعدها ولم ينته الأمر بعد. لكن الثابت أننا أمام حرب مستمرة، فقد اعتبرتها إسرائيل منذ البداية حرباً وجودية، ولم يتغير الأمر لمن يفهم العقل الإسرائيلي المصنف كعقل خائف ارتباطاً بمزيج من إرث الواقع والأسطورة.
وأمام هذا الواقع بات من الصعب أن تستمر عملية الإبادة بهذا الشكل وسط تصفيق جزء من العالم لمجرمها الاول، وعدم قدرة الجزء الآخر على حماية الفلسطينيين أو إنهاء هذه الحرب. بات لا بد من البحث عن مخرج يوقف هذا الجنون ويوفر حماية لهؤلاء الغزيين الذين فشل العالم في توفيرها لهم، ووقفت الفصائل الفلسطينية عاجزة عن ذلك.
قبل أسابيع قدم وزير الخارجية السعودي تصوراً لاستدعاء قوات دولية إلى قطاع غزة، وهو ما رفضته الفصائل الفلسطينية التي عجزت عن توفير تلك الحماية أو إمكانيات وقف الحرب، بل تناشد العالم بوقفها وسط عناد إسرائيلي يصر على استكمال تدمير القطاع، وقد كان طلب حماية شعبنا من البطش الإسرائيلي وإرسال قوات فصل دولية مطلباً فلسطينياً بالأساس، فالإسرائيلي لا يحتاج إلى حماية، وهو ما طالب به الرئيس الفلسطيني في مجلس الأمن وسط حالة سخرية من الفصائل التي كانت تبالغ في قوتها حد الانفصال عن الواقع.
المشروع الذي طرحته السعودية كان قائماً على قوات دولية وعربية تمهد الطريق لعودة السلطة بعد تجديدها "طبعاً التجديد مطلب فلسطيني قبل أن يكون أميركياً، ومن الطبيعي أن تضم كافة الفصائل دون استثناء". أين المشكلة في هذا بالنسبة لشعب سجل فشلاً في حكم نفسه، وفي اللحظة التي امتلك فيها السلاح قتل نفسه وأبناءه وأنتج هذا الانقسام والتشظي، وقدم الشعب الفلسطيني كأنه شعب يتصارع على سلطة وعلى مصالحه الحزبية.
ما الذي دعا الدول للحديث عن سلطة مختلفة وقوات دولية وعربية؟ ببساطة هو الهشاشة والبدائية التي نتجت عن صراع القوى وتدمير النظام السياسي وغياب المؤسسات والفساد وغياب القانون وغياب الشخصية السياسية الفلسطينية.
قطاع غزة يتعرض لعملية طحن منذ تسعة أشهر ونصف، وبالكاد تمكنت بعض الدول من إدخال بعض المعلبات بإذن إسرائيلي، ولا أحد قادر على حمايته، ولأن لا معجزات في هذا الزمن فالغزيون ينتظرون أي شيء ..أي شيء، ويستغربون من الفصائل رفضها لقوات حماية دولية وعربية بعد أن انتهت حلول الأرض... كأن حالة الانفصال مازالت مستمرة .... لهم الله.