بات بنيامين نتانياهو أكثر رئيس حكومة إسرائيلية إلقاءً للخطابات في “الكونغرس” الأميركي، المرة الأولى في بداية احتلاله منصب رئيس حكومة إسرائيل، في حقبته الأولى (1996ـ 1993)، والمرتان الثانية (2011) والثالثة (2015) في حقبته الثانية (2009 ـ 2021)، والرابعة (الحالية) أتت في حقبته الثالثة التي بدأت أواخر العام 2022.
اللافت، أن نتانياهو خاطب الكونغرس في كل تلك المرات في ظل رئيس للولايات المتحدة ينتمي الى الحزب الديمقراطي، بيل كلينتون في المرة الأولى، وباراك أوباما في المرتين الثانية والثالثة، والرابعة (الحالية) جو بايدن.
المغزى من ذلك أن نتانياهو عندما يذهب إلى الولايات المتحدة لمخاطبة الكونغرس فهو يذهب إلى بيته الثاني لحشد الدعم لإسرائيل وفقاً للسياسات التي ينتهجها، والتي تسببت بتوتر العلاقة بينه وبين الرؤساء المذكورين، وذلك بمخاطبته الشعب الأميركي مباشرة، ولإثارة عصبية الجالية اليهودية للضغط على الإدارات الأميركية. لكنه في ذلك كله يتقصّد أيضاً مخاطبة الفريق الآخر في السياسة الأميركية، أي الحزب الجمهوري، وتحديداً جمهور دونالد ترامب في المرحلة الحالية، في ظل الاستقطاب والتوتر السائدين في الولايات المتحدة.
لا يعني ما تقدّم عدم وجود توترات بين قادة إسرائيل ورؤساء أميركيين ينتمون الى الحزب الجمهوري، فقد حصل مثل ذلك، في ظل التوتر الذي ساد بين رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق اسحق شامير والرئيس الأميركي جورج بوش الأب، مثلاً، مطلع التسعينات، إبان التحضير لمؤتمر مدريد.
على أية حال، فإن نتانياهو في هذا الاصطفاف، في خياراته السياسية، يقف إلى جانب الحزب الجمهوري ضد الحزب الديمقراطي، ويصوت لصالح دونالد ترامب، بكل ما يمثله، ولا سيما بسياساته الشرق أوسطية، التي تعطي إسرائيل مكانة مركزية، بعيداً عن حقوق الشعب الفلسطين وعن قرارات المجتمع الدولي؛ على رغم أنه في خطابه حاول أن يكون متوازناً، بتوجيهه الشكر الى الرئيس جو بايدن في دعمه حرب إسرائيل في غزة، منذ اليوم الأول، وبمخاطبته ممثلي الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الكونغرس.
في ذلك كله، يشتغل نتانياهو من داخل السياسة الأميركية، لإيجاد تقاطعات بين سياساته وسياسات الولايات المتحدة، وبديهي في المقابل أن الإدارة الأميركية الحالية (إدارة بايدن) اشتغلت، من داخل السياسة الإسرائيلية، كمساند للمعارضة الإسرائيلية، أيضاً، بدعوى ترشيد سياسات إسرائيل وملاءمتها مع المصالح الأميركية “لإنقاذها من نفسها على رغم أنفها”.
وتفسير ذلك أن الولايات المتحدة، بخاصة في إدارة الحزب الديمقراطي، لا ترى أنها معنية بدعم سياسات الاستيطان وانتهاج سياسات عنصرية أو قمعية ضد الفلسطينيين، على رغم دعمها إسرائيل وضمانها أمنها وتفوّقها. كذلك، فهي ضد محاولة حكومة نتانياهو فرض تغيير سياسي في إسرائيل يتقاطع مع قيم الديمقراطية الليبرالية التي تتبناها، من خلال تغليب طابع إسرائيل كدولة يهودية ودينية على طابعها كدولة ليبرالية ديمقراطية (نسبة الى اليهود من مواطنيها)، وتلك هي من أهم مسببات التوتر بين إدارة بايدن والحكومة الإسرائيلية التي تعتبر الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، والتي تقوم على تحالف اليمين القومي والديني المتطرف.
مع ذلك، فما يفترض إدراكه أن ذلك الخلاف أو التوتر الأميركي ـ الإسرائيلي، لا يقلل من دعم الولايات المتحدة المطلق لإسرائيل، أي دعم أمنها واستقرارها وتفوقها النوعي في المنطقة؛ وهو ما تبين من دعم إدارة بايدن اللامحدود لحرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، وتصريح مسؤوليها المستمر بأنه لا توجد حرب إبادة، على رغم أن كل العالم يرى ذلك ويؤكده.
هذه المرة، خاطب نتانياهو الطبقة السياسية الأميركية المتمثلة في الكونغرس، وفي رأس أجندته، أولاً، تأكيد ثوابت العلاقة الاستراتيجية الوطيدة التي تربط الولايات المتحدة بإسرائيل، وهذا مهم لإسرائيل وللإسرائيليين، وأمام المجتمع الدولي، بعد اهتزاز مكانة إسرائيل دولياً، وبعد تخوف قطاع واسع من الإسرائيليين من أثر الخلاف بينه وبين إدارة بايدن، لا سيما أن ثمة ميلاً متزايداً لدى مواطني الولايات المتحدة للتبرم والتبرؤ من السياسات الإسرائيلية التي باتت عبئاً سياسياً وأخلاقياً ومالياً عليهم، وهذا يشمل قطاعات من يهود الولايات المتحدة.
وفي هذا المجال، قدم نتانياهو إسرائيل كخندق أمامي للدفاع عن “الديمقراطيات”، وعن الولايات المتحدة ومصالحها، والشراكة التي لا تنفصم معها في الحرب ضد “الإرهاب”.
ثانياً، هذه الخطوة مهمة جداً لنتانياهو لجلب مزيد من الدعم السياسي والعسكري والمالي، بعد الشكوى التي طرحها في شأن نوع من تلكؤ أميركي بدعم إسرائيل بالأسلحة، فيما يرى أن إسرائيل تتعرض لمخاطر حرب متعددة الجبهات، ولحرب مصيرية تستهدف وجودها.
ثالثاً، كان ثمة بعد أيديولوجي واضح في خطاب نتانياهو، إذ عرض إسرائيل كبلد ديمقراطي وكضحية للاسامية، وأنها لذلك تتعرض للتهديد، ومن حقها الدفاع عن نفسها، وأنها تخوض حربا أخلاقية في سبيل الدفاع عن شعبها. ولم يفته في ذلك التحريض على المتظاهرين الذين يرون في إسرائيل دولة أبارثايد أو دولة استعمارية ودولة تمارس حرب الإبادة، مساوياً في ذلك بين العداء لإسرائيل والعداء للسامية ولليهود.
رابعاً، عرض نتانياهو في خطابه للسياسات التي ينتهجها في حكومته، إزاء عدد من المسائل؛ إدراكاً منه بأن الشرعية الأميركية ضرورة لتعزيز شرعيته داخل إسرائيل، بالنظر الى إدراك الإسرائيليين حساسية العلاقة مع الولايات المتحدة، بوصفها أقوى دولة في العالم، فقط، والدولة التي تغطي سياسات إسرائيل، وتضمن تفوقها وأمنها واستقرارها، في الشرق الأوسط من كل النواحي.
خامساً، تعمد نتانياهو التركيز على تزايد المخاطر المتأتية من النظام الإيراني، وخطأ التعامل الأميركي مع سياساته ونفوذه، وضمن ذلك الملف النووي والأسلحة الصاروخية والطائرات المسيرة والميليشيات الموجودة في أكثر من مكان من اليمن إلى العراق ولبنان وسوريا، لحشد الدعم لسياسة تحجيم إيران.
سادساً، في المجال الفلسطيني ركز نتانياهو على ما يسميه مواجهة الإرهاب والمتطرفين، وأن كل ما يجري بسبب إيران، لتأكيد حق إسرائيل في الدفاع عن وجودها، والدفع نحو شطب الموضوع الفلسطيني المتعلق بحقوق الفلسطينيين، في سعيه الى وأد فكرة الدولة الفلسطينية من الأجندتين الإسرائيلية والأميركية، وضمن ذلك إيجاد ترتيبات انتقالية في قطاع غزة لما بعد الحرب، ما يعني أنه لم يتزحزح عن موقفه في هذا الشأن.
سابعاً، في المجال العام حاول نتانياهو التسويق لإيجاد مظلة دفاعية للمنطقة، سواء للدفع بفكرة التحالف الإقليمي لتعزيز علاقات إسرائيل في المنطقة، كما للدفع بفكرة عزل إيران وتحجيمها، وكلا الموضوعين يخدمان في شطب البعد الفلسطيني من جدول الأعمال.
مع ذلك، ومع كل علامات الزهو التي بدت على نتانياهو، والاحتفاء الذي لقيه في الكونغرس، فإن ذلك لا يغطي حقيقة أنه ذهب هذه المرة إلى واشنطن مع ثلاثة جروح غائرة. الأول يتمثل بتراجع مكانة إسرائيل كدولة رادعة. والثاني يتمثل بتحوّل إسرائيل، التي كانت تعرف كدولة أبارتهايد، إلى دولة مدانة تمارس حرب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني، أيضاً. والثالث، أنه في عهده باتت إسرائيل منقسمة على نفسها أكثر من أي مرة في تاريخها.
على ذلك، ربما إن الملاحظة الأهم هنا أن نتانياهو بدا مرتاحاً في بيته في الولايات المتحدة أكثر من ارتياحه في بيته في إسرائيل.