الثلاثمائة يوم الأولى... كشف حساب أولي

 

 

دخلت حرب الجبهات المتعددة يومها الثلاثمائة، لم تظهر بعد أي مؤشرات على أنها لن تتجاوز السنة وما بعد ذلك.

فلسطين هي مركز الاشتعال، لذا يبدو بديهياً أن تكون الأكثر خسارة في الأرواح والممتلكات، ولأن للجغرافيا شروطها فجبهة جنوب لبنان تليها في الخسارة، ذلك أن حبل الشهادة الفلسطيني اللبناني لم ينقطع منذ سقوط أول شهيد قبل عقود إلى آخر شهيد قبل ساعات.

هذه الحرب تميزت عن كل الحروب التي سبقتها بامتداد ألسنة النار إلى أبعد الأماكن، فمن تخيل يوماً أن مسيرة يمنية تنفجر في قلب تل أبيب.

إن إسرائيل التي كانت نائمةً على نمط حروب تعد بالأيام وفي مساحات ضيقة، تسافر طائراتها ومسيراتها آلاف الأميال كي تقصف ليس من أجل حسم الحرب وإنما للبقاء فيها، وإقناع الخائفين بأن قدرة الردع ما تزال تعمل.

في الأيام الثلاثمائة وأستخدم هنا مفردة الأولى، لاعتقادٍ مني بأننا سنستخدم مصطلح الثانية وهذا ليس ببعيد الاحتمال، ما دام على قمة صناعة القرار في إسرائيل أعلى منسوب جنون لا يوجد مثله في أي زمان ومكان، وما دام وراء هذا الجنون تقف دولة عظمى تغطي كل مستلزماته ونفقاته وإلى جانبها الحلف الدولي المتبقي من زمن الحرب الباردة "الأطلسي"، الذي يقف على أهبة الاستعداد للانخراط فيها إذا ما تعرضت مدللته إسرائيل للخطر.

الخسائر من جانبنا فادحة وموجعة... نزفٌ بشري لا يتوقف، ودمار عمراني حوّل المباني إلى أضرحة، وتصفية بنىً تحتية بصورة تكاد تكون مطلقة.. لا شوارع ولا مدارس ومستشفيات ولا ماء نظيف ولا كهرباء، ولا امتحانات ابتدائية وثانوية وجامعية، ونحن من يجسّد الإنسان وعلمه سر وجودنا وحياتنا وآمالنا وأحلامنا.

كل هذا موجود في كل مكان ولكنه لم يعد موجوداً في بلادنا.

قبالتنا جنونٌ إسرائيلي مدجج بالسلاح الأحدث والاحتياطيات المالية الهائلة والتحالفات السياسية والعسكرية والاستخبارية، ويخوض حربه علينا ومعنا بلا خطوط حمراء ولا حتى رمادية، عنوانها أقتل ودمّر حيثما تصل طائراتك وفوهات مدافعك، ولا قلق من نفاذ الذخيرة فالمصانع الأمريكية تعمل ليل نهار والجسر الجوي لا يتوقف ولا يهدأ والحماية السياسية من تصفيق الكونغرس وقوفاً إلى تجاوز الرقم القياسي في استخدام الفيتو مرات ومرات، لمنع صدور ولو قرار خجول يدين مقتلة الأطفال في غزة... كل ذلك أوصلنا إلى اليوم الثلاثمائة ولا يوجد ما يمنع من إيصالنا إلى ما بعده، فعداد الموت في بلادنا أكثر سرعة من عداد الزمن.

غير أن هذه الحرب المفروضة علينا وجذرها الأعمق الاحتلال الوحيد الذي تجدر تسميته باحتلال القرنين، لم يلحق الأذى بنا وحدنا كفلسطينيين وعرب، بل إن ارتدادها دخل إلى كل بيت في إسرائيل... قتلى وجرحى كل يوم، هجرة جماعية من الشمال والجنوب إلى الوسط، ونزف اقتصادي ومالي ومعنوي لم يسبق أن كابدته الدولة العبرية منذ تأسيسها، وانقسام أفقي وعامودي وقع فيه المجتمع وسحب آثاره المدمرة على الدولة العميقة، وتمزق وتشتت في الوعي ورؤية الحاضر والمستقبل، وزحف كزحف الجراد يجسدّه قطعان المستوطنين وقادتهم من المستوى السياسي، بحيث لم يتوقف عند الضفة وبشرها وشجرها وحجرها، بل امتد إلى داخل حصون الدولة ومرافقها وحتى جيشها.

إسرائيل الآن محكومة من قبل مجرمين مطلوبين للشرطة والقضاء، والدولة ذاتها مطلوبة بل ومدانة من محكمة العدل الدولية والجنايات.

إن ما حدث على مدى الأيام الثلاثمائة وارتداداتها على إسرائيل لن يتوقف عند نجاح الاستخبارات في قتل هنية، ولن ترجح كفة الربح فيه بقتل فؤاد شكر، صحيح أن الوصول إلى القادة يؤذينا ويُسجّل علينا، إلا أن الصحيح أكثر أنه لم ولن يحل معضلة إسرائيل، ولن يوقف الارتدادات شديدة القسوة والتأثير عليها، وهذا ما لا أدعيه كفلسطيني فرضت على شعبه أشرس مقتلة في التاريخ، بل ما قاله أعمدة الرأي والفكر في إسرائيل، وقد اخترت لكم كختام لهذه المقالة ما كتبه أهمهم..

"الاغتيالات لن تعيد المخطوفين"... أسرة تحرير هآرتس.

"تصفية أخرى لكننا نضعف استراتيجياً" آفي شيلون يديعوت أحرونوت.

"التصفيات اللامعة لن تحل المشكلة بين إسرائيل ويهودا" بن كسبيت، معاريف.

"هذه الحرب هي الأكثر فشلاً في تاريخ إسرائيل وعلى مدى عشرة أشهر حققت إنجازا واحداً ووحيداً هو إبقاء عائلة نتنياهو ومساعديها ورجال بلاطها ومن يعتاشون منها في الحكم" أوري مسغاف، هآرتس.

ولو قرأنا ما تحت هذه العناوين لوجدنا كم ألحقت حرب إسرائيل الغاشمة من أذىً على إسرائيل ذاتها وباعتراف أهلها.

 

 

Loading...