اعتاد المحللون عربا وعجما ويهودًا، على طرح سيناريوهات لليوم التالي لإنتهاء الحرب على غزة، الا أن القليل منهم طرح لما آلت اليه هذه الحرب، في الأيام السابقة لإنتهائها. إن هذه الحرب هي الوحيدة التي هُزمت فيها إسرائيل في اليوم الأول لإشتعالها في 7 أكتوبر 2023 ، ولم تتمكن إسرائيل وعلى ما يبدو لن تتمكن عد أكثر من 100 يوم من تحقيق أهدافها المعلنة لشنها، رغم الإنتقام المتوحش الذي مارسته ولا تزال تمارسه ضد قطاع غزة، بلغت حصيلته الى اليوم سقوط 100 ألف فلسطيني بين قتيل وجريح ومفقود، ومليونا و955 ألف فلسطيني (أي ما نسبته 85% من إجمالي السكان) هُجروا قسرا من منازلهم دون توفر ملجأ آمن لهم، بالإضافة الى تدمير وإلحاق أضرار جسيمة في مرافق البنية التحتية، ما جعل من القطاع منطقة غير صالحة للعيش.
إن الحرب على غزة لم تبدأها إسرائيل، ويبدو أن إنهائها لن يكون بيدها أيضا، كما أنها الحرب الأولى الأطول، في تاريخ حروبها ضد العرب، والتي كانت أراضيها ولأول مرة مسرحا لإشتعالها، في هجوم 7 أكتوبرعلى مستوطناتها في مناطق ما يعرف بغلاف غزة ... ولا توجد أي مؤشرات على قرب انتهاء القتال، كما ان الهدف الذي أعلنه قادة إسرائيل ليل نهار، بتفكيك القدرات العسكرية لحركة حماس وإنهاء سلطتها السياسية في قطاع غزة، بعيد المنال إن لم يكن مستحيلا، ناهيك عن أن أسراها لا يزالون في قبضة حماس والجهاد الإسلامي، بالإضافة الى أن الحرب على غزة ستهز الأسس التي قامت عليها إسرائيل لسنوات، وربما لأجيال قادمة، على ضوء إخفاقاتها في 7 أكتوبر، التي عززت شعور الرأي العام فيها بالشك بقدرات الجيش الإسرائيلي، وغياب الثقة في الحكومة..
وبمرور كل يوم بعد المئة، الذي تواصل فيه إسرائيل حربها على غزة، تتسع حقول ألغام الإستقطاب السياسي، والأزمة الإقتصادية الناجمة عن تكلفة حربها الباهظة. وعلى الرغم من الرقابة العسكرية المشدده على أحداث الحرب، وتفاعلاتها السياسية في الساحة الإسرائيلية، الا أن ما تمكنت الكاميرات من التقاطه، أظهرت الخلافات في حكومة الطوارئ ومجلس الحرب المصغر، بين نتنياهو ووزير دفاعه غالانت ورئيس حزب اللمعسكر الوطني غانتس، في مواضيع مختلفه منها، المسؤولية عن الإخفاق في التنبؤ وصد هجوم 7 أكتوبر، والعلاقات المتوتره مع الولايات المتحدة، وتآكل الدعم الدولي لإسرائيل في حربها، الا المشترك بين المختلفين الثلاثة، هو عدم الوضوح حول كيف ستحقق إسرائيل الأهداف التي وضعتها، بعد اكثر من 100 يوم من المعارك الضاريه مع المقاومة الفلسطينية، دون أية بوادرعلى ضعفها او نقص تسليحها.
العديد من المحللين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين تراودهم الشكوك، التي يعربون عنها خلال لقاءات تلفزيونية، أو في مقالات رأي في صحف ومواقع إسرائيلية، بشأن قدرة الجيش الإسرائيلي على حسم المعركة في غزة، وذلك على ضوء المعارك الشرسة، التي تخوضها المقاومة الفلسطينية مع القوات الإسرائيلية، في شمال ووسط وجنوب القطاع، وملخص تحليلاتهم، أن التفوق العسكري عدداً وآليات وكثافة نيران تحرق الأخضر واليابس، لن تترجم الى إستسلام حماس. ويذهب محللون الى أبعد من ذلك بقولهم، إنه حتى ولو سجل الجيش الإسرائيلي أي إنجاز في الحرب، فإنه لن يكون كافيا للتغطية على الفشل، في منع هجوم 7 أكتوبرعلى مستوطنات غلاف غزة.
تأثيرات حرب إسرائيل على غزة بعد مرور أكثر من 100 يوم عليها، لم تقتصرعلى الجوانب العسكرية، وإنما طالت الجوانب الإقتصادية أيضا، إذا أصيب الإقتصاد الإسرائيلي بركودٍ، نتيجة الشلل الذي عانت منه قطاعات مختلفة. فبحسب وزارة المالية الإسرائيلية، فإن إسرائيل سجلت عجزاً في الميزانية، في 2023 وصل الى 4.2% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بفائض قدره 0.6% في عام 2022، وذلك بسبب زيادة الإنفاق الحكومي لتمويل الحرب، وأشارت الوزارة الى أن العجز المسجل في ديسمبر/كانون الأول الماضي وحده، بلغ 33.8 مليار شيكل (9 مليار دولار)، وبلغ العجزعن العام الماضي كاملا الى 18.5 مليار دولار، في االوقت الذي تراجعت عائدات الضرائب الى 8.4%. .
وفي القطاع الزراعي، الذي تعد إسرائيل إحدى الدول في العالم الرائدة به، كان للحرب على غزة تأثير سلبي عليه، إذ مني بخسائر تفوق الـ 160 مليون شيكل (43.8 مليون دولار)، للربع الثالث من عام 2023، وبحسب صحيفة "غلوبس" الاقتصادية الإسرائيلية، فإن 75% من الخضراوات المستهلكة في إسرائيل، و 20% من الفاكهه و6.5% من الألبان، تأتي من مستوطنات غلاف غزة، الذي يعرف "بسلة الخضارالإسرائيلية".
ولا تقتصر تأثيرات الحرب الإسرائيلية، على غزة على القطاع الزراعي وقطاعات إقتصادية أخرى، بل تطال ايضا سوق العمل، فمنذ بدء الحرب حتى الثلث الأخير من شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، تقدم أكثر من 190 ألف إسرائيلي، بطلبات للحصول على إعانات بطالة. ووفقا لبيانات مكتب الإحصاء الإسرائيلي، ارتفع معدل البطالة في إسرائيل إلى 9.6% في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بعدد وصل الى نحو 430 الفا، نتيجة لنزوح عشرات آلاف الإسرائيليين من المناطق المحاذية للحدود مع غزة، ناهيك عن الخسائر الإسرائيلية الكبيرة في عدة قطاعات إقتصادية أخرى، تصل الى 3 مليارات شيكل (830 مليون دولار) شهريًا، بسبب منع العمال الفلسطينيين من الأراضي المحتله من دخول إسرائيل للعمل فيها.
قطاع التكنولوجيا لم يسلم أيضا من الخسائر بسبب الحرب، إذا أفادت بيانات أولية أن الشركات الإسرائيلية الناشئة في قطاع التكنولوجيا المتطورة، حصلت على عائد وصل الى 1.5 مليار دولار في الربع الأخير من عام 2023، بانخفاض قدره 15% عن الربع الثالث من نفس العام. ويعد قطاع التكنولوجيا أحد أهم القطاعات الاقتصادية في إسرائيل، إذ يتكون من 6 آلاف شركة، تشكل 18% من الناتج المحلي، ونحو نصف صادرات إسرائيل، و30% من عائدات الضرائب.
ويرى الصحفي الإسرائيل (رفيف دروكر) في مقال في هآرتس، أن انتصار اسرائيل على حماس وانهاء قوتها العسكرية وسلطتها على قطاع غزة هدف غير قابل للتحقيق، ولهذا يفضل في وضع كهذا الذهاب لمبادرة عكسية، بإنهاء الحرب وإستعادة الإسرائيليين المحتجزين في غزة، حتى ولو بثمن وصفه ،بالكارثي، يتمثل بالإفراج عن أسرى تصفهم إسرائيل بالملطخة أياديهم بالدماء، ثم أستئناف الحرب بعد 3 أو 4 أشهر، الا أن (دروكر) إستدرك بالقول، إن مبادرة كهذه لن يوافق عليها نتنياهو وغالانت، لأنهما سيفقدان مبررات وجودهما. ويرى الصحفي الإسرائيلي، أن حكومة إسرائيلية جديدة تكون على اتخاذ قرارات، منها شن الحرب على حماس مجددا بعد أن يسود الصمت، الا أن حكومة كهذه، لا يمكن تشكيلها الا من خلال فرض الانتخابات، عبر احتجاجات عامة أكثر قوة من الاحتجاجات على الانقلاب القضائي التي جرت خلال العام الماضي.