السيد حسن نصر الله في الخطابة والسياسة

 

 

اتفقتَ معه أو اختلفت، كنتَ من أتباعه أو خصومه، فلا تملك إلا الإقرار بموهبته الاستثنائية في الخطابة والسياسة، فهو في الأولى أفضل الناطقين بالعربية، في التعبير عن السياسة الإيرانية، وكذلك أكثر القادة مقدرة على تسويق ما يبدو مستحيلاً على أنه ممكن. يتمتع الرجل بمخزون لغوي لا ينضب، يتجاوز به منطق الحسابات السائدة مع قرائن تقنع بأن أمريكا وإسرائيل والأطلسي أوهى من خيط العنكبوت أمام التصميم والحق والإرادة وحركة التاريخ.

ومن يحسب متى يحدث ذلك وكيف؟ ذلك أن البلاغة واستعداد الناس للإقتناع، يكفيان حتى لإدخال الجمل من ثقب الإبرة، وقرينة القرائن على منطقية طرح السيد أنه بقدراته العسكرية المتواضعة قياساً بقدرات الخصم، ما يزال في مركز اللعبة ومن ثوابتها.

خطابه الأخير يستحق أن يوصف بخطاب التأبين للشهداء الكبار، الذين قضوا في وقت واحد وفي المكانين الأكثر حساسية ومغزى، ولكن كان للخطاب مهمة سياسية لا يقوى على أداءها أحد سواه، وهي تفسير وتسويق التريث في الرد الذي يتشوق أنصار الممانعة لرؤيته عاجلاً، وهنا استخدم مصطلحاً تبسيطياً ينطوي على خفة ظل "التريث جعل إسرائيل واقفة على رجلٍ ونصف بعد أن كانت تقف على رجلٍ وربع" ولمَ لا تظل هكذا ما دام عداد القلق وحرق الأعصاب يعمل.

في خطابه الهادئ والقوي، عرض السيد إنجازات المقاومة التي تجسدت بما تعانيه إسرائيل من داخلها، وسرد بالأرقام ما خسرت حتى الآن وما ستخسر لو تمادت في حربها، وما قاله صحيح فعلاً فهو لا يؤلف من عنده، بل كل ما قاله سبقه في الاعتراف به الإسرائيليون أنفسهم والأمريكيون كذلك.

غير أنه وهذا ينطوي على بعد تعبوي فعّال ألقى ظلالاً كثيفة على الأثمان التي ندفعها لقاء ما تتكبده إسرائيل من خسائر على جانبنا وهي باهظة بميزان الثقل والأرقام.

السيد لا يُنكر ذلك ولا يلغيه من الحساب والخطاب، إلا أنه يفسّره بطريقة تجتذب التصفيق والهتاف، مستنداً إلى تراث التضحيات التاريخية الكبرى، التي قدمت وما تزال إلى أن يكتب الله النصر المبين.

السيد نصر الله وهو الرمز الأكثر سطوعاً لمعسكر الممانعة والمقاومة، تطابق في التحليل مع الرموز الأكثر اندماجاً في الخيار الآخر المختلف، خيار المفاوضات والسعي للحلول السياسية، إذ لا فرق بين خطابه في أمر التسوية، وخطاب محمود عباس والسيسي والملك عبد الله بن الحسين، الذين قالوا في السياسة الأمريكية والإسرائيلية في هذا الشأن أكثر بكثير مما قال مالك في الخمر، غير أن نقطة الاختلاف معهم هو عدم استعدادهم لقبول دعوته باليأس من رهانات التسوية، والذهاب إلى رهانات مغايرة، وكأن حسابات الدول يمكن أن تكون نسخة طبق الأصل عن حسابات المليشيات.

وببراعة لغوية وبلاغية سوّق السيد التشابه معهم في تقويم الأداء الأمريكي والإسرائيلي في أمر التسوية، إلا أنه اختلف جذرياً في الخيارات، فهو يخاطب قوماً لن يذهبوا إلى الحرب حتى لو كان السلام مستحيلاً.

السيد حسن نصر الله، لا ينكر أبداً صعوبة الحالة المفروضة عليه وعلى بلاده وحلفاءه ممن يتفقون معه أو يختلفون، وقد وجد تفسيراً منطقياً لموقف سوريا وإيران ويريده أن يكون مماثلاً بالنسبة للأردن ومصر وغيرهما باستخدام لهجة غير مباشرة بل مخففة، مكونة من جملة تعبوية قصيرة "إن لم تقفوا مع المقاومة فلا تطعنوها من الخلف".

ورد الدول التي لا تتفق معه أنها تتبنى الهدف وتختلف على الوسيلة، وذلك لا يعني طعناً في الظهر، وتراه اجتهاداً في الحفاظ على المصالح وامتثالاً لموازين القوى.

أتابع خطابات السيد حسن نصر الله ليس بغرض الاقتناع بما يقول، فالأمر ليس بهذه البساطة، ولكن للإطلاع على قوة اللغة المعززة بسلاح قليل أمام السياسة المعززة بسلاح ثقيل، وإذا ما أردت تقويم ظاهرة السيد نصر الله، الخطابية والسياسية، فلابد وأن تنظر إليها من خارج حالة الانبهار بها أي من موقع ترى فيه الأمور بموضوعية أوضح وأصح.

الخلاصة.. في تقويم ظاهرة السيد نصر الله، ينبغي تجنب القاعدة التي وضعها الإمام الشافعي وما تزال تحكم المزاج العربي في أمر الموالاة والمعارضة، وذلك في بيت الشعر الذي قال فيه..

“وعينُ الرضا عن كلّ عيبٍ كليلةٌ

ولكنّ عينَ السخط تبدي المساويا”.

فليحمنا الله من عين الرضا العمياء وعين السخط الأكثر عمىً.

 

 

Loading...