روسيا أيضاً، مثل أميركا، قلقة من تسبُّب ردّ إيران على إهانة إسرائيل لشرفها باغتيال إسماعيل هنية في مربّع أمنيّ لـ”حرس الثورة”، بحرب واسعة. تخشى موسكو من أن يؤدّي تدحرج الردّ وردّ إسرائيل عليه إلى انخراط أميركا في حرب كهذه. لطالما حذّرت حلفاءها، خصوصاً إيران والحزب وحماس، من أنّ استدراج أميركا للحرب هدف بنيامين نتنياهو. للحرب عواقب سلبية على مصالح روسيا في المنطقة من جهة، وعلى المواجهة التي تخوضها في أوكرانيا مع الغرب من جهة ثانية.
دخلت موسكو على خطّ “إدارة التصعيد”، التي تمارسها واشنطن، بين تل أبيب وطهران بهدف منع توسيع الحرب. إنّها من الحالات النادرة التي تتقاطع فيها مصالح الدولتين العظميَين منذ تفاقم العداء بينهما إثر الاجتياح الروسي لأوكرانيا في 24 شباط 2022. لكنّه تقاطع يحصل تحت سقف العداء.
كان إيفاد فلاديمير بوتين لشويغو، وزير الدفاع السابق وسكرتير مجلس الأمن القومي، مقرّراً في إطار التحضير للاتفاق الاستراتيجي بين البلدين. وكانت المحادثات في هذا الشأن تجمّدت بعد مقتل الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، في انتظار انتخاب الرئيس الجديد. إلا أنّ احتدام المخاطر العسكرية بعد اغتيال هنية في طهران، وفؤاد شكر في ضاحية بيروت الجنوبية، فرض نفسه. فموسكو حريصة على دعم طهران إزاء احتمال توسّع الحرب، وبالقدر نفسه على لجمها عن ردّ ضدّ إسرائيل يتسبّب بها. لذلك اتّسم الحراك الروسي نحو طهران باتّجاهين متلازمين:
1- سبق الزيارة ورافقها نقل طائرات عسكرية روسية معدّات دفاعية جوّية إلى الجيش الإيراني. ونقلت “نيويورك تايمز” عن اثنين من قادة في “حرس الثورة” تأكيداً لتسلّم طهران رادارات ووسائل دفاعية. ولم يستبعد بعض التقارير أن تشمل صواريخ “إس 300”. هذا مع أنّ أوساطاً إيرانية نافذة تعتقد بأنّه يجب عدم الاتّكال على موسكو نظراً إلى سوابق عدم استخدامها الدفاعات الجوّية في سوريا ردّاً على الغارات الإسرائيلية ضدّ الوجود الإيراني فيها. روسيا تعامل طهران بالمثل في دعمها بأسلحة دفاعية، كما فعلت طهران بمدّ موسكو بصواريخ بالستية ومسيّرات احتاج إليها الجيش الروسي في الحرب مع أوكرانيا. ويتردّد أنّ التسليح الروسي لإيران لن يشمل حصولها على طائرات “سو” 35 المتطوّرة، التي تطمح طهران لامتلاكها.
2- تتخوّف موسكو، مثل واشنطن، من أن يؤدّي توسيع الحرب إلى تورّطها فيها، هي الأخرى، بينما تخوض حرب أوكرانيا. وهي مثل واشنطن أيضاً لا تريد تحمّل الأكلاف السياسية والعسكرية والماليّة لحربين معاً. ويمكن تصنيف زيارة شويغو لطهران في هذا السياق. إذ إنّ موسكو التي تراقب الحشد العسكري الأميركي في المنطقة وما سبق اغتيال هنية من ضربات إسرائيلية وأميركية لمواقع قوى الممانعة، تخشى من عواقب توسّع الحرب على إيران نفسها. فإذا كان الردّ الإيراني على اغتيال هنية يستدرج ردّة فعل إسرائيلية موجعة لطهران، بإجازة أميركية، سيكون ذلك إضعافاً لدولة حليفة، لا سيما إذا أدّى تدحرج المواجهة العسكرية إلى ضرب إسرائيل لمنشآت نووية إيرانية. والقيصر حريص على الاحتفاظ بهذا الحليف القوي في آسيا الوسطى، وفي إطار تجمّع دول “بريكس”، في سياق الصراع الدولي مع أميركا استناداً إلى عقيدة بوتين التي تقوم على تجميع الأوراق لتحقيق ميزان للقوى متعدّد الأقطاب.
من الأمثلة على أضرار توسّع الحرب سؤال طرحه متابعون بدقّة لمجريات حرب أوكرانيا: ماذا لو قصفت إسرائيل مصانع إيران لإنتاج الأسلحة، ولا سيما الطائرات المسيّرة والصواريخ البالستية؟
موسكو ما زالت تتزوّد بها من طهران على الرغم من تحقيقها تقدّماً كبيراً في مصانعها بإنتاج المزيد من الدبّابات والصواريخ… أمّا مصنع إنتاج المسيّرات الإيرانية الذي حصلت عليه من طهران، فليس كافياً لسدّ النقص في حاجتها إلى هذا السلاح الذي أظهرت الحرب ثغرة في امتلاكها إيّاه، قياساً إلى استخدام كييف له (كما حصل في أشهر الحرب الأولى). من يطرحون هذه الإشكالية يرون فيها عاملاً جوهرياً يدفع الكرملين إلى تجنّب توسيع الحرب بين إيران وإسرائيل.
سبق أن شاعت موجة من التكهّنات في مرحلة مبكرة من حرب غزة بأنّ القيادة الروسية مغتبطة بالاستنفار الغربي لدعم إسرائيل. فهو حوّل جزءاً مهمّاً من الدعم بالمال والسلاح إلى الدولة العبرية وصرف أنظار الغرب عن حرب روسيا في أوكرانيا. وأفادت القيادة العسكرية الروسية من ذلك بتحقيق تقدّم على جبهات عدّة في الميدان الأوكراني. لكن سرعان ما تنبّه الكرملين إلى مخاطر تطوّر الحرب في الشرق الأوسط وتأثيرها على دوره في المنطقة. تعاطت موسكو مع هذه المخاطر بخطوات عدّة:
– حرص الجانب الروسي على نصح الرئيس السوري بشار الأسد بطريقة حازمة بالامتناع عن إقحام سوريا في جبهات إسناد غزة التي أدارتها طهران. وقد استجاب لذلك وصولاً إلى مراهنة دمشق على أن تحصل على ثمن إبعاد جيشها وقيادتها عن “وحدة الساحات” من الغرب (سبق لـ”أساس” أن نشر تقريرين عن الجهود الروسية في هذا الصدد في 5 آذار وفي 25 حزيران الماضيين). فموسكو تخشى من أن يؤدّي جرّ سوريا إلى مواجهة مع إسرائيل، إلى تدمير ما بقي من بنى الدولة السورية، ولا سيما العسكرية. وهذا يسهّل سقوط النظام، وفقدانها الموقع الذي اكتسبته في شرق البحر الأبيض المتوسط. وسيكون خسارة كبيرة لها في صراعها الاستراتيجي على النفوذ مع أميركا في المنطقة.
– النصيحة لطهران منذ البداية، أي بعد شهر على الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة، بالتنبّه إلى وجوب عدم توسيع الحرب. وقد اطمأنّ الجانب الروسي إلى التزام طهران، التي تفهّمت الحاجة إلى إعفاء سوريا من وحدة ساحات الإسناد، وتجاوب “حرس الثورة” مع طلب القوات الروسية في بلاد الشام سحب الميليشيات التابعة له من بعض المناطق الجنوبية الحدودية مع إسرائيل. وحلّت مكانها دوريات للشرطة الروسية. وفي خطابه الثلاثاء الماضي، استثنى نصر الله سوريا في حديثه عن الردّ من قبل جبهات الانتقام من إسرائيل. كما استثنى العراق.
– لم تتوقّف روسيا في اتّصالاتها مع إسرائيل والحزب، عبر سفيريها في تل أبيب وبيروت، عن التنبيه إلى مخاطر توسيع الحرب. وشجّعت عبر زيارات نائب وزير الخارجية ألكسندر بوغدانوف للدوحة “حماس” على مفاوضات وقف النار.
– خاضت الدبلوماسية الروسية معارك محتدمة في مجلس الأمن لاستصدار قرار بوقف الحرب على غزة في سياق الحؤول دون توسّعها. وواجهتها واشنطن بالفيتو مرّات عدّة. فالأخيرة تراعي خطوات إسرائيل العسكرية ضدّ حماس مع أنّها لا تريد توسيع الحرب.
بإمكان موسكو التوسّط بين الدولتين لخفض التصعيد على الرغم من انتقادات تل أبيب لها بسبب الإدانة الروسية لقتل الأبرياء والأطفال والنساء في غزة، وذلك لسببين: الأوّل هو تأثير اليهود الروس، الذين يناهز عددهم مليوناً، في الدولة العبرية على المستوى السياسي. والثاني هو موروث علاقة الصداقة الشخصية بين بوتين ونتنياهو على الرغم من تراجعها بحكم الحرب على أوكرانيا، ثمّ حرب غزة.
عن موقع أساس