بات يحيى السنوار رئيسا للمكتب السياسي لحركة "حماس"، وهو الرابع الذي يشغل هذا المنصب بعد موسى أبو مرزوق وخالد مشعل وإسماعيل هنية الذي اغتالته إسرائيل في طهران يوم 31/ 7/ 2024.
بيد أن ظروف مجيء السنوار إلى ذلك المنصب مختلفة تماما، لجهة أنه ليس من مؤسسي الحركة التي انطلقت قبل نحو أربعة عقود، ومع اندلاع الانتفاضة الأولى (1987)، وكونه أتى من الطبقة القيادية الثانية في تراتبية الحركة، ومن جهازها الأمني/العسكري، مع تجربة اعتقال لثلاث وعشرين سنة (1988-2011)، ولأنه أتى في وضع غير طبيعي، أي بعد عملية اغتيال سلفه، إسماعيل هنية، وأخيرا لأنه جاء إلى المنصب بعد أن فرضته الشعبية التي حصل عليها، سواء داخل الحركة أو في أوساط مناصريها من المتحمسين لعملية "طوفان الأقصى" (7/ 10/ 2023)، باعتباره قائدا لها.
الأهم من كل ما تقدم أن السنوار أتى، كرئيس وكزعيم لحركة "حماس"، في لحظة تاريخية خطيرة جدا، لجهة مصير تلك الحركة، بل والحركة الوطنية الفلسطينية برمتها، وأيضا، لجهة التحديات التي تفرضها حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، منذ أكثر من عشرة أشهر، والتي تمخّضت عن نكبة ثانية مهولة وغير مسبوقة، للشعب الفلسطيني.
صانع تاريخه
هكذا، فإن السنوار (1962، خان يونس- غزة)، صنع تاريخه أو أسطورته، بنفسه، بعيدا عن الحياة الحزبية والتراتبية التنظيمية. إذ اعتقل في فترة مبكرة، المرة الأولى في عام 1982، وهو ابن 20 عاما، ثم في المرة الثانية في عام 1988 وهو ابن 26 عاما، حيث قضى 23 عاما في السجون، وذلك لدوره في عملية اختطاف وقتل جنديين إسرائيليين، وقتل 4 فلسطينيين يشتبه في تعاونهم مع إسرائيل، وقد صدرت في حقه حينها 4 مؤبدات (مدتها 426 عاما).
في فترة الأسر استطاع السنوار فرض نفسه كواحد من أهم قياديي تنظيم "حماس" في السجون، وكان مع مروان البرغوثي (القيادي في "فتح")، وأحمد سعادات (الأمين العام لـ"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين")، من قياديي الحركة الفلسطينية الأسيرة. وقد أفرج عنه في عملية تبادل عام 2011، وعمره 49 عاما، بعد أن قضى نصف عمره تقريبا، وكل سني شبابه، في الأسر.
بعد خروجه، وتبعا لتاريخه، أصبح السنوار عضوا في المكتب السياسي لحركة "حماس" في عام 2012 (بعمر 50 عاما)، وكان من الأكثر قربا للناشطين في "حماس" في الجناح العسكري ("كتائب القسام")، وقد مهد ذلك لانتخابه كرئيس للحركة في قطاع غزة عام 2017، وهو العام الذي خرج فيه خالد مشعل من رئاسة المكتب السياسي للحركة، وجاء إسماعيل هنية بدلا منه، وقد تم التجديد ثانية للسنوار في عام 2021، وصولا لانتخابه مؤخرا كرئيس (رابع) لحركة "حماس".
"حماس" والسنوار
إلى ذلك، فإن انتخاب السنوار، أو غيره، لمنصب رئاسة المكتب السياسي لحركة "حماس"، ربما يكون أهون شيء، أو آخر شيء، يفترض بتلك الحركة أن تهتم به، لأن أي رئيس للحركة، مهما كان اسمه، لن يستطيع شيئا لم يستطعه رئيسها الراحل، سيما في الظروف والمعطيات الراهنة، ولأن الإمكانيات هي ذاتها، وبخاصة لأن المخاطر التي تتعرض لها "حماس" تتعلق بوجودها، من الأساس، كما تتعلق بكيفية تفويت الاستهدافات الإسرائيلية الرامية للهيمنة على الشعب الفلسطيني من النهر إلى البحر، وتحويل القطاع إلى منطقة غير صالحة للعيش، أو إلى منطقة طاردة للفلسطينيين، بطريقة ناعمة، أو خشنة، والاثنتان تنطويان على القسر بالطبع.
ليس القصد من ذلك التقليل من أهمية الإجماع من حول السنوار داخل "حماس" ولدى هيئاتها القيادية، إذ لا يوجد قيادي فيها يستطيع، سيما في هذه الظروف، منافسة الرجل على تلك المكانة، بالنظر لشعبيته الجارفة، وأيضا بالنظر لثقل تنظيم غزة "الحمساوي"، ولأن ذلك قد يضر بمكانة أو حتى بمستقبل، أي منافس له في تلك الحركة. بيد أن ذلك لا يمنع من التحفظ على مستوى الديمقراطية، أو على سلامة الحياة الداخلية، التي تمكنت فيها تلك الحركة في هذه الظروف من اختيار، أو انتخاب، قائدها، في حركة تعتمد مبدأ الطاعة العمياء، والتراتبية الصارمة، ونظام "الشورى"، الذي يحدد المشاركة بالطبقة القيادية المسيطرة، علما أن هذا مرض فلسطيني عام، يشمل معظم الفصائل، سيما حركة "فتح".
نقاش في الخيارات
المهم أن السنوار بات قائدا وزعيما لحركة "حماس". وهذا أمر طبيعي، وفقا لكل المعطيات المذكورة، وهو شأن لتلك الحركة، لمنتسبيها ومناصريها، مع ذلك فإن هذا الخيار فتح باب الاجتهاد على المغزى الذي توخته "حماس" من وراء ذلك.
هكذا ثمة من رأى أن هذا الخيار ينم عن ذكاء وجرأة، وعن تحد لإسرائيل، بأن حربها لم تفتّ من عضد "حماس"، وأنها لم تضعف من إصرارها على مواصلة القتال، وهو تفسير يمكن فهمه في سياق الصراع الدائر، إذ إن الفلسطينيين اعتادوا على مصارعة إسرائيل بعنادهم وبإيمانهم بحقهم، بغض النظر عن مناسبة ذلك للظروف والإمكانيات والمعطيات وعلى رغم الأثمان والتضحيات الباهظة، التي لا تجد لها استثمارا سياسيا واضحا ومحددا ويتناسب معها.
ومعلوم أنه في المقابل فإن قيادة "حماس" باتت تطرح اليوم مجرد العودة إلى ما قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، في حين أنه لم يبق شيء في كل قطاع غزة له علاقة بما قبل 7 أكتوبر، لا البشر ولا الحجر ولا الشجر، وأن استمرار القتال يؤدي فقط لإعطاء إسرائيل فرصة لقتل قطاع غزة تماما، بل وقضم الضفة الغربية أيضا.
أيضا، ثمة من رأى أن خيار السنوار يتلاءم مع ما يريده محور "المقاومة والممانعة" بقيادة النظام الإيراني الذي بات بمثابة الحاضنة الأساسية وربما الوحيدة لحركة "حماس" والذي يقدم لها الدعم المالي والعسكري والسياسي وهو تفسير طبيعي وربما له نصيب كبير من الصحة، مع كل هذا التماهي بين قيادات "حمساوية" مع النظام الإيراني وتابعه "حزب الله"، رغم كل ما فعلاه في سوريا مثلا. وما يفترض إدراكه أن العلاقة مع إيران تأتي على حساب محاولة "حماس" فك العزلة عنها، وتعزيز ارتباطها ببعدها العربي، ووضع حد لمداخلات إيران الرامية لاستخدام الورقة الفلسطينية لتغطية سياساتها التي أضرت بقضية فلسطين وببلدان المشرق العربي، سيما العراق وسوريا ولبنان، مع ما في تلك السياسات من خدمة غير مباشرة لإسرائيل. وعلى رغم أن كل ما قام به ذلك المحور لم يؤد الى كبح، أو تقييد، قدرة إسرائيل على تدمير غزة، بالقياس للادعاءات السابقة عن "وحدة الساحات" وإمكان زلزلة الأرض تحت أقدام إسرائيل أو محوها في غضون ساعات أو أيام.
أيضا، ربما يؤدي هذا الكلام إلى زعزعة علاقة "حماس" مع تركيا ذاتها، التي تربطها بحركة "حماس" علاقات وطيدة، وهي بالتأكيد لن ترض عن خيار "حماس" بالاعتماد على النظام الإيراني.
بين السنوار ومشعل
ثمة وجهة نظر ثالثة ترى أن خيار السنوار أتى لقطع الطريق على خالد مشعل، الرئيس الأسبق للمكتب السياسي لحركة "حماس" والذي يتمتع بقبول عربي، ورضا في أوساط إقليمية ودولية (ضمنها تركيا تحديدا)، علما أن لمشعل شعبية في الأوساط "الحمساوية" والفلسطينية عموما وهو الوحيد الذي كان يمكن أن يطرح بدلا من السنوار، طبعا في حال لم يترشح السنوار للمنصب.
والفكرة هنا أنه ربما كانت هناك كتلة في "حماس"، سيما الكتلة القيادية في غزة، أرادت أن تقطع الطريق على مشعل، إن بسبب "فيتو" إيراني، أو لأن مشعل حاول أن يشتغل، أو أن يجتهد، سابقا، من خارج الإطار المفاهيمي لحركة "حماس" والذي ظهر في وثيقتها الجديدة (2017). ومعلوم أن مشعل أدخل في تلك الوثيقة مصطلحات من مثل الدولة الفلسطينية كهدف فلسطيني، والمقاومة الشعبية كطريقة للمقاومة وعدم استهداف "حماس" للمدنيين الإسرائيليين وتأكيد أن "حماس" حركة تحرر وطني، مع حرصه على تكييف "حماس" في البعد العربي، ومع الواقع السياسي الفلسطيني.
الآن، مع يحيى السنوار، أو مع غيره، فإن "حماس" تقف في مواجهة مصيرها، فكل شيء، وليس فقط مصيرها، يتوقف على ما سيأتي به اليوم التالي بعد الحرب، أو على الوضعية التي ستتوقف فيها حرب الإبادة الإسرائيلية.