فكما أن الولايات المتحدة هي التي قادت هذا العدوان.. عليها أن تتحمل مسؤولية إنهائه

 

 

مع تراكم غيوم الحرب الإقليمية الموسعة التي يحاول نتنياهو أن يأخذ المنطقة لها بل والقوى الدولية، بإصراره على المضي في تنفيذ رؤية معلمه جابوتنسكي، وتصاعد حدة وبشاعة الجرائم الإسرائيلية على قطاع غزة وفي كل فلسطين منذ دير ياسين حتى مدرسة التابعين وما بينهم من مجازر، تتكشف حقيقة واضحة أمام العالم مفادها أن الولايات المتحدة ليست مجرد داعم لإسرائيل، بل هي اللاعب الرئيسي في إدارة هذا العدوان ضمن رؤيتها لترتيبات منطقتنا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حين حاصرت ودمرت العصابات الصهيونية 530 قرية ومدينة فلسطينية حينذاك وبارتكاب مجازر بتغطية الغرب الإستعماري، ثم استبدال فلسطين بإسرائيل واستبدال شعبها العربي الفلسطيني بالمستوطنين الصهاينة في إطار مشروعهم الاحلالي الإستعماري الغربي القديم الذي يتواصل تنفيذه منذ ما قبل ذلك التاريخ حتى اليوم .

المفاوضات لذر الرماد في العيون

جولة المفاوضات الجديدة المفترضة خلال الأسبوع الجاري ليست سوى محاولة مكشوفة لذر الرماد في العيون. يديرها الأمريكيون بالضغط على الوسطاء الإقليميين مثل مصر وقطر، اللتين وقعت البيان الثلاثي مع الولايات المتحدة ولا تستطيعان قول "لا" للولايات المتحدة التي بدورها لا مصلحة لها وتحديداً لإدارة الحزب الديمقراطي بالصدام مع إسرائيل في ظل أجواء الانتخابات. في هذه الأثناء، تستمر إسرائيل في عدوانها وحربها الهمجية، غير راغبة في وقف العدوان، مستفيدةً من الدعم الأمريكي المباشر الذي يمنحها حرية التصرف دون مساءلة وشراء الوقت بدورة مفاوضات عقيمة يتم التراجع عن محتواها في كل مرة لاستكمال رؤيتها في غزة. هذا الدعم لا يتوقف عند الدعم الدبلوماسي فقط، بل يشمل أيضا تمويلاً ضخماً مستمراً، فقبل أيام أعلنت الخارجية الأمريكية عن تقديم 3.5 مليار دولار لاقتناء أسلحة وعتاد عسكري، بالإضافة إلى مشروع قانون تمويل تكميلي بقيمة 14 مليار دولار.

مفاوضات حول تسويات سياسية

كما وتسعى الولايات المتحدة من جهة أخرى إلى إدارة مفاوضات غير معلن عنها وفق تقديرات جهات إعلامية مع إيران وحزب الله من خلال الحكومة اللبنانية ووسطاء آخرين تتركز باعتقادي حول الدور والمكانة الإقليمية لكل منهم في ظل هذا النظام الدولي وعدم الإخلال بتوازن الردع في منطقتنا الذي اختل جانبه الإسرائيلي دون أن يختلف أكثر، وقد لا تمنع ردود عسكرية محدودة من ذلك مع إمكانية أن تؤدي إلى خارطة طريق لتسويات سياسية معينة لا تعتمد فقط المعايير الأمريكية والإسرائيلية، في ظل دور صيني وروسي قد يتضح أكثر خلال زيارة الرئيس أبو مازن المرتقبة إلى موسكو بالأيام القادمة والتي تحمل معاني سياسية أيضاً حول حرب الوكالة التي تخوضها أمريكا ضد روسيا في أوكرانيا ولما حققته القوات الروسية مؤخراً في مدينة كورسك في صد الاعتداء الأوكراني بدعم من الناتو، ونقاش آليات التفاعل الروسي لوقف اطلاق النار وتمكين شعبنا من حقوقه السياسية الوطنية .

 الدعم الأمريكي سلاح تدميري في يد إسرائيل

إن هذه الحرب ليست مجرد معركة إسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، إنها حرب أمريكية بامتياز. فمن يقودها ويديرها ويدعمها ويحميها هي الولايات المتحدة الأمريكية. فاليوم، لم يعد الإسرائيليون قادرين على التحرك بمفردهم، بل يعتمدون بشكل كامل على الدعم العسكري الأمريكي المباشر. هذا الدعم يتجلى في مشاركة البوارج الأمريكية في البحر المتوسط والأحمر كما وأحدث الطائرات وإرسال الغواصات، وفي نزول الضباط والوزراء الأمريكيين إلى الميدان، مؤكدين أن المشروع الإسرائيلي هو في الأصل مشروع أمريكي استعماري يفترض حمايته .

لكن الجديد في هذا الصراع هو اضطرار الولايات المتحدة للقتال بشكل مباشر، خصوصاً بعد تراجع القدرة الإسرائيلية على الردع والدفاع عن نفسها بعد السابع من أكتوبر. هذا التراجع أجبر الأمريكيين على التدخل بشكل أكبر في ظل تهديدات المقاومة الفلسطينية وتحذيرات إيران وحزب الله، مما يجعل المعركة أكثر تعقيداً وخطورة خاصة وإن توسعت رقعتها خلال الساعات القادمة .

المقاومة: معركة طويلة الأمد

بالرغم من الدعم الأمريكي الهائل، تبقى المقاومة الفلسطينية قادرة على مواجهة العدوان الإسرائيلي في حدود معينة نظراً للإمكانيات المحدودة وخصوصية الأرض المحاصرة وحجم التضحيات الجسام بين صفوف شعبنا، رغم ما استطاعت أن تلحقه من خسائر في صفوف قوات الاحتلال والقطاعات الاقتصادية لم يسبق أن تحققت من قبل. لكن هذه المواجهة تحتاج إلى نفس طويل، فهي ليست مجرد رد فعل على العدوان، بل معركة مفتوحة تحتاج إلى رؤية وطنية شاملة يتم التوافق عليها من الكل الوطني، واستراتيجيات مدروسة واستنزاف قدرات إسرائيل في كافة القطاعات مع الحفاظ على تمكين وجود وصمود شعبنا وحمايته واستمرار المعركة السياسية ومواجهة المستوطنين على الأرض .

 لقد قدمت المقاومة رؤيتها كاملة للوسطاء قبل اغتيال الشهيد إسماعيل هنية، مؤكدة أنها لا تعارض وقف إطلاق النار، لكنها تدرك أن المفاوضات لا يمكن أن تكون مجدية إذا لم يتوقف العدوان أولاً وتتحقق شروطها الاخرى بخصوص الأسرى وحرية تحرك شعبنا في غزة وانسحاب قوات الاحتلال ورفع الحصار وإعادة الإعمار، وقد ابلغت الوسطاء حول ذلك أمس بمرجعية موافقاتها السابقة بضرورة وجود آليات واضحة التنفيذ، رغم تهديدها بعدم الموافقة على بدء الجولة الجديدة، في محاولة منها لتحسين شروط التفاوض .

ما تحقق من مكاسب سياسية

ورغم إن المقاومة تدرك أيضا أن استمرار الحرب يخدم الأهداف الاستراتيجية لإسرائيل ومصالح نتنياهو السياسية والعقائدية والشخصية، وأن الدعم الأمريكي المتزايد لإسرائيل يعزز موقفها. ولكن في نفس الوقت، هناك مكاسب سياسية حققها فعل المقاومة وصمود شعبنا الفلسطيني على مستوى الأمم المتحدة والرأي العام العالمي استكمالاً لما تم منذ عقود وحتى ما قبل أوسلو بقيادة منظمة التحرير وما يتطلب تطويره اليوم، مما وضع إسرائيل في موقف دفاعي حرج كما وزاد من عزلتها. فالمجتمع الدولي بدأ يرى بوضوح أن هذا الصراع ليس مجرد مواجه فلسطينية-إسرائيلية، بل هو جزء من صراع أوسع تقوده الولايات المتحدة لتأمين مصالحها في الشرق الأوسط، إضافة إلى ما بدأ من أوساط جديدة تدرك جوهر إسرائيل كدولة استعمار استيطاني عنصري.

الموقف الإسرائيلي: رفض وقف الحرب

إسرائيل لا تريد وقف الحرب العدوانية بل ترغب في امتداد فعلها إلى مدن الضفة الغربية ومخيماتها وهو الأخطر إن استطاعت ذلك لتمرير رؤية الحركة الصهيونية التي تحدثت عنها بالمقال السابق، وتستقوي بالموقف الأمريكي الذي يمنحها غطاءً سياسياً وعسكرياً لاستمرار العدوان، رغم بعض التباين الحاصل مع الإدارة الأمريكية بما يتعلق برؤيتها حول مفهوم الشرق الأوسط. لذا فإن الهدف ليس فقط سحق المقاومة الفلسطينية، بل أيضاً تعزيز موقف ومكانة الولايات المتحدة في مواجهة أي تهديدات إقليمية أخرى، سواء من إيران أو من حركات المقاومة في لبنان واليمن والعراق، كما ومواجهة تمدد النفوذ الروسي والصيني في منطقتنا ومناطق أخرى من العالم .

هذا الرفض الإسرائيلي لوقف الحرب ينبع من إدراكها أن أي توقف في العمليات العسكرية العدوانية سيمنح المقاومة فرصة لتعزيز قوتها وتراكم مكاسبها السياسية، سواء عبر الأمم المتحدة أو المحاكم الدولية أو من خلال التأييد العالمي المتزايد. ويفتح فرص سقوط حكومة نتنياهو، ولهذا تفضل إسرائيل استمرار العدوان، حتى وإن كانت تدرك أن ذلك لن يؤدي إلى أي شكل من إطلاق عملية سلام أو الاستقرار والذي باتت لا ترى أهميته الأغلبية المطلقة التي تجنح نحو الفاشية الدينية بالمجتمعات الإسرائيلية المتباينة لحل أزمتها واستقرارها .

معركة الإرادات

إن المعركة الدائرة اليوم في غزة ليست فقط معركة بين إسرائيل والفلسطينيين، بل هي معركة إرادات بين الولايات المتحدة من جهة وكل الشعب الفلسطيني بما فيها المقاومة وحلفائها الإقليميين بل والدوليين من جهة أخرى. الولايات المتحدة تسعى بكل قوة لدعم إسرائيل وإستدامة العدوان، بينما تسعى المقاومة مع حلفائها إلى إيقاف هذا العدوان وكسر الهيمنة الأمريكية في المنطقة التي تغيب الدول العربية عن لعب دور فيها في غياب مشروع عربي قومي موحد .

وكما أن الولايات المتحدة والتي تفترض في نفسها الشرطي الدولي بالرغم من تاريخها البشع بحق الشعوب فهي التي قادت هذا العدوان، فإن عليها أن تتحمل الآن مسؤولية إنهائه وفق قرار مجلس الامن 2735 السابق بالخصوص الذي لم تعترض عليه واشنطن وتصريحات بايدن التي يؤكدها بشكل يومي بأن التوصل إلى اتفاقية وقف إطلاق النار ما زالت ممكنة، بل وإلى إقرار اتخاذ اجراءات فعلية وفق نظام الأمم المتحدة خاصة البند السابع منه في جلسة مجلس الأمن القريبة بدعوة من الجزائر لوقف هذه الكارثة الإنسانية والجريمة السياسية المتمثلة بالمحرقة بحق شعبنا .

 

 

 

Loading...