منذ بداية حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، وفتح النقاش الفلسطيني حول أشكال الكفاح الملائمة والمستدامة والمجدية والتي يمكن استثمارها سياسيا، في الظروف والمعطيات الدولية والعربية الراهنة، عربيا ذهب بعضهم إلى إسقاط التجربة الجزائرية على التجربة الفلسطينية، بشكل عمومي وتعسفي، دون التمعن في أحوال التجربتين والمعطيات المحيطة بكل منهما، رغم الدروس الغنية والصعبة والمعقدة والخائبة، للتجربة الوطنية الفلسطينية في عمرها المديد، ستة عقود فقط.
وكانت الثورة الجزائرية، ضد الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، قد شكلت مصدر إلهام (مع الثورة الفيتنامية) للآباء المؤسسين للحركة الوطنية الفلسطينية، والكفاح المسلح الفلسطيني، سيما أبو عمار وأبو جهاد وأبو إياد. وكانت الجزائر أول عاصمة عربية تستضيف مكتبا تمثيليا لتلك الحركة، ونافذتها لإقامة علاقات خارجية مع حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا، ومع الصين الشعبية، في حينه، في أواسط الستينات.
بيد أن ذلك لا يبرر القصور في معرفة طبيعة الثورة الجزائرية، إذ إن اقتصار ذلك على أن الشعب الجزائري دفع مليون شهيد، أو أكثر، لا يقدم شيئا، سوى تبرير إخفاق الحركة الوطنية الفلسطينية في صوغ استراتيجية كفاحية مناسبة لها، رغم طول عمرها وغنى خبراتها، وأيضا كردٍ على وجهات النظر النقدية التي تأخذ على القيادات هذا القصور، الذي يوازي افتقاد الفلسطينيين لرؤية وطنية جامعة، إضافة إلى انتهاجها أشكالا نضالية لا تتناسب مع إمكانيات شعبها، ولا مع قدرته على التحمل، ناهيك أنها أتاحت لإسرائيل، في كثير من الأحوال (وضمنها "طوفان الأقصى")، استنزاف الشعب الفلسطيني وتقويض وجوده على أرضه، بدل استنزافه لها.
إن اتكاء البعض على اعتبار التضحيات مقياسا لأي عملية نضالية يبطن عقلية التقليل من أهمية حياة البشر، وعدم اعتبار الإنسان كقيمة عليا لأي حركة سياسية، كحركة تحرر وطني، أو للتغيير السياسي، إذ إن قيم الحرية والعدالة والكرامة والمساواة هي الأساس في العمليتين. أيضا، فإن ذلك الاعتبار يضفي قداسة في غير محلها على شكل نضالي بعينه، على حساب غيره من أشكال النضال، إضافة إلى أنه يجنب القيادات الفلسطينية المساءلة والمحاسبة عن طريقة إدارتها لأحوال الحركة الوطنية الفلسطينية في صراعها ضد عدوها.
ما ينبغي الانتباه إليه أن الشعب الجزائري قدم تضحيات جمة في فترة الاستعمار الاستيطاني الفرنسي الطويلة لبلده، في الـ132 عاما (1830-1962)، بيد أن المسألة لا تتعلق بعدد الشهداء، سواء كان 100 أم مليونا، وإنما بقدرة أي قيادة على إدارة كفاح شعبها، بأفضل ما يمكن وأقل كلفة ممكنة، بتجنيبه خوض معارك خاسرة، أو فوق قدرته، أو تتيح للعدو كسر ظهره، وهو ما حصل كثيرا، مع حركة وطنية فلسطينية خسرت الأردن ثم لبنان، ولم تفلح في استثمار التضحيات الهائلة في الانتفاضة الثانية (2000-2004)، وفي حروب غزة.
ومع التقدير للتضحيات والبطولات التي بذلها شعب الجزائر، وأغلب الذين يستشهدون بها لم يقرأوا كتابا عنها، وهي نادرة أصلا، ومعظم انطباعاتهم استندت إلى مرويات، مع مبالغات وتوظيفات سياسية، فإن تجربتهم الكفاحية شهدت فصولا من الحرب الأهلية، بين الموالين لفرنسا والمناهضين للاستعمار، كما أن حركتهم الوطنية، التي توجت بـ"جبهة التحرير الوطني"، شهدت فصولا من المنازعات والاحترابات والتصفيات الداخلية، وفي الحالين كان هناك ضحايا جزائريون كثر، إضافة إلى ضحايا عنف فرنسا ضد الشعب الجزائري.
ومعلوم أن "جبهة التحرير" التي توصلت إلى إنهاء الاستعمار الفرنسي، تأسست عام 1954 ونالت الاستقلال عام 1962، في ظرف ثمانية أعوام، وهي فترة الكفاح المسلح الثانية، بعد التجربة الأولى في عهد عبد القادر الجزائري، وغيره من المجموعات، بعد ثلاثينات وأربعينات وخمسينات القرن التاسع عشر، أي بداية الاحتلال الفرنسي، أما العقود التي سبقت ذلك، والتي تناهز عشرة عقود فقد كانت مليئة بالنضالات السياسية والشعبية.
ولعل ما يفترض إدراكه جيدا أن ثمة ظروفا دولية وعربية أسهمت، أو حسمت، في شأن انتهاء استعمار فرنسا للجزائر، فقد تأسست الجبهة بعد إنهاء الاستعمار في البلدين القريبين، تونس والمغرب، ومع ظهور مصر كقوة إقليمية وازنة، بقيادة جمال عبد الناصر، وهذا كله أمن الدعم العسكري للثورة الجزائرية من الجوار القريب. وعلى الصعيد الدولي، فقد انتهى الاستعمار القديم، في كل دول آسيا وأفريقيا تقريبا، سيما مع تموضع الولايات المتحدة الأميركية كقطب يقود العالم الغربي، على حساب بريطانيا وفرنسا، ومع التطورات الاقتصادية والتكنولوجية في العالم التي حولت أشكال الهيمنة، من الوسائل العسكرية المباشرة بواسطة الجيوش، إلى الوسائل غير المباشرة بوسائل التبعية الاقتصادية والمالية والتكنولوجية.
على ذلك فإن الإحالة على المثال الجزائري، وفقا لمنظور التضحيات والمقاومة فقط، تحجب كل تلك المعطيات، بل وتحجب حقيقة أن الثورة الفيتنامية، أيضا، ما كان لها أن تنتصر لولا وجود فيتنام الشمالية كدولة، ووجود جسر بري وجوي، ودعم مستدام من دولتين كبريين، هما الصين وروسيا، مع كل الاحترام لبطولات وتضحيات الشعب الفيتنامي، علما أن فيتنام في الاصطفافات الحالية، السياسية والاقتصادية، هي أقرب للولايات المتحدة من الصين وروسيا.
وتبعا لما ذكرناه من تغير الظروف، فإن تلك الإحالة تحجب حقيقة أن كل البلدان العربية (باستثناء الجزائر)، أي سوريا ومصر ولبنان والعراق والمغرب وتونس وليبيا... إلخ، حققت استقلالها عبر الكفاح السياسي، ولم تحظ بحركات كفاح مسلح وازنة وممتدة وشاملة، على المستوى الوطني، بقدر ما تعرفنا فيها على أحزاب وقوى خاضت غمار النضال السياسي، من أجل توحيد الشعب وإدارة كفاحه ضد الاحتلال بالطرق المتاحة، ما يؤكد أن تغير المعطيات الدولية والعربية هي التي أسهمت في تحقيق استقلال تلك الدول، بدليل أن الجزائر هي الحالة الوحيدة التي تبوأت فيها حركة تحرر وطني القيادة والسلطة بعد الاستقلال.
أيضا، يمكن أن نذكر في هذا الإطار تجارب الهند (أكبر مستعمرة في العالم في حينه) وكذلك تجربة دولة جنوب أفريقيا، وحتى تجربة إيران ذاتها، إذ إن كلها استندت إلى الكفاح الشعبي، طويل الأمد، والمتدرج، الذي أدى إلى التحرر، بالاستقلال والتغيير السياسي.
القصد من ذلك أن الكفاح المسلح هو أحد أشكال الكفاح، وهو عمل مشروع ضد الاحتلال والظلم، لكنه ليس أمرا مطلقا، أو مقدسا، أو منزلا من السماء، إذ يستلزم شروطا، ومعطيات، مناسبة، أهمها القدرة على استثمار التضحيات والبطولات، وعدم إتاحة الفرصة للعدو لاستخدام كل آلته العسكرية لقصم ظهر الشعب، أو استنزافه، على نحو ما فعلته إسرائيل طوال أكثر من عشرة أشهر، من حرب إبادة جماعية للفلسطينيين، بحجة استهداف "حماس".
ليس القصد المفاضلة بين أشكال النضال، فالفلسطينيون في أوضاعهم، لا يملكون ترف هكذا مفاضلة، إذ لكل شكل إمكانياته وظروفه ومعطياته، والمهم توفر القيادة التي تقوم بذلك بأفضل ما يمكن وبأقل كلفة ممكنة، سيما بالربط بين الاستراتيجية الكفاحية والأهداف السياسية الممكنة في كل مرحلة، مع تأكيد أن الحرب، كجيش لجيش، وصواريخ مقابل صواريخ، هي غير المقاومة المسلحة طويلة الأمد، التي تعتمد أساسا على الشعب، وعلى إمكانياته.
ثمة فكرتان هنا: الأولى أن تجربة الكفاح المسلح الفلسطيني انطلقت من الخارج، في ظرف عربي معين تمثل في حاجة الأنظمة لتغطية هزيمة يونيو/حزيران (1967)، بدعم العمل الفدائي، وأيضا في ظرف دولي، تمثلت في الحرب الباردة، والاستقطاب بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، أي إن تلك التجربة لم تكن، في حينه، خيارا لكل الشعب الفلسطيني، لا الفلسطينيين في 48 ولا الفلسطينيين في الضفة وغزة، الذين اختاروا الكفاح الشعبي والهبات والانتفاضات.
الثانية، إدراك أن إسرائيل وضع دولي كما نشهد حاليا، إذ حتى إيران تفكر ألف مرة قبل أن ترد على إسرائيل. وفي الواقع فإن إسرائيل قامت في ظروف عربية ودولية معينة، أمنت لها الاستمرار والحماية والتطور، وهذا يختلف عن الصراع مع أية دولة استعمارية، أو استعمارية-استيطانية، أي يختلف عن تجربتي الجزائر أو جنوب أفريقيا. وعليه فإن المقاومة ضد إسرائيل، بكل أشكالها الممكنة، يتطلب الانتباه إلى هذه الناحية، لأنه من غير المسموح دوليا للفلسطينيين استثمار تضحياتهم ومعاناتهم وبطولاتهم، مهما بلغت، كما بينت التجربة. والمعنى أن انهيار المشروع الصهيوني في فلسطين يتطلب تغييرا في الأوضاع الدولية والعربية لصالح الفلسطينيين، ولو نسبيا، بيد أن ذلك لا يتطلب وقف المقاومة، بكل أشكالها، وإنما يتطلب مواءمة خيارات المقاومة الممكنة والمجدية، في كل مرحلة، مع الظرف الدولي والعربي.