الانتظار المتوتر في إسرائيل منذ اغتيال فؤاد شُكر في الضاحية الجنوبية لبيروت وإسماعيل هنية في طهران مستمر لسببين: الأول، كما قال نصر الله، أن جوهر الانتظار القلق للضربة المتوقعة هو جزء من معاقبة المجتمع الإسرائيلي. والثاني هو أن الصورة التي تبدو من طهران منذ اغتيال هنية تعكس صراعاً داخلياً يدور على قلب وعقل وصورة المرشد الأعلى علي خامنئي. من المحتمل أن تكون هذه الصورة جزءاً من خدعة إيرانية، الغرض منها خفض درجة جاهزيتنا، لكن من المحتمل أن تكون صورة حقيقية. وبحسب هذه الصورة، وقبل أيام معدودة، في 7 آب كان هناك إجماع كامل في الرأي وسط القيادة والإعلام الإيرانيَّين. حتى أن الرئيس الجديد، الذي يُعتبر "براغماتياً"، أو "إصلاحياً"، مسعود بازشكيان، رفض بشدة طلب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، من إيران "ضبط" النفس. وفعلاً، قال إنه يمكن منع نشوب حرب إقليمية، إذا أوقفت إسرائيل حربها في غزة. أي أن وقف إطلاق النار في غزة يمكن أن يؤدي إلى ردّ إيراني محدود، ومن دون ذلك، فإن الهجوم سيكون كبيراً.
فجأة، في 9 آب بدأت التسريبات أن بازشكيان توجّه إلى خامنئي على عجل، طالباً منه إعادة التفكير في الهجوم ضد إسرائيل. ووفقاً للتقارير، يتخوف بازشكيان من ردّ إسرائيلي يمكن أن "يدمر الاقتصاد الإيراني". وبدلاً من ذلك، اقترح مهاجمة منشآت سرية إسرائيلية في كردستان العراقية، أو في أذربيجان.
إذا كانت التسريبات صحيحة، فيبدو أن الرئيس متخوف من هجوم إسرائيلي عنيف على صناعة النفط الإيرانية. تعرف القيادة الإيرانية ما فعلته إسرائيل بخزانات النفط التابعة للحوثيين في الحُديدة، وهي قادرة على الانتقام أكثر بعشرات المرات من المنشآت الإيرانية.
تقريباً، كل الميزانية الإيرانية المتوفرة للحكام، وللإنفاق العسكري والاستيراد، ومساعدة حلفائها بالسلاح والتمويل، تأتي من بيع النفط والغاز. وإذا احترق كل شيء فستسقط إيران وشركاؤها في حفرة عميقة.
كيف تجرّأ الرئيس الذي انتُخب بفضل دعم المرشد الأعلى، والذي لا يُعتبر ثورياً، على تسريب وجهة نظر ثورية بشأن عدم مهاجمة إسرائيل؟ إنها جرأة هائلة، ويمكن أن تُعتبر إهانة للكرامة الوطنية.
ما زال هذا التسريب بحاجة إلى تأكيد رسمي، لكن إذا كان صحيحاً فإن التفسير الأكثر معقوليةً هو أنه خلال اللقاء الذي جرى بين بازشكيان وخامنئي، فإن هذا الأخير هو الذي طلب من الرئيس الإيراني التسريب بأنه هو الذي طلب إعادة التفكير في المسار من جديد. حتى يوم الأحد 11 آب الجاري، دعا العديد من كبار المسؤولين إلى الانتقام، وتحدثت التقارير عن أن خامنئي أمر بالانتقام، لكنه لم يعلن، هو نفسه، ذلك بصوته، وعلى يبدو فهو لا يزال متردداً.
السبب الأساسي هو أن الاستخبارات الإيرانية تحدثت عن تجمّع الأسطول الأميركي حول إيران ولبنان، وأن إسرائيل تخطط لرد مؤلم. صحيح أن رئيس مجلس الأمن القومي في روسيا، سيرغي شويغو، قام بزيارة عاجلة لطهران في 5 آب، وتحدثت تقارير عن شحنات من التكنولوجيا الروسية الجديدة المتوجهة إلى إيران للدفاع ضد الطائرات، لكنّ هناك ضغطاً سياسياً دولياً كبيراً لمنع التصعيد.
حتى أن تركيا وروسيا تضغطان للحؤول دون نشوب حرب شاملة. ليس من المؤكد أن خامنئي كان يريد هجوماً مباشراً على إسرائيل في نيسان الماضي. فالمرشد الأعلى شخص حذِر، ويدرس قراراته بهدوء، وكان يعلم جيداً بأن أميركا ستساعد إسرائيل دفاعياً (وربما أكثر، إذا تفاقمت الأزمة). ومن المحتمل أن يكون اندفع نحو الهجوم المباشر لأنه لا يريد أن يبدو انهزامياً أمام الرئيس السابق "المتطرف" رئيسي، وأمام حلفائه من الحرس الثوري، وحزب " جبهة الصمود القوية" وجبهة بايداري في البرلمان الإيراني.
لو لم تقع حادثة المروحية التي أودت بحياة رئيسي ووزير الخارجية لربما اندفع خامنئي إلى شنّ هجوم مباشر على إسرائيل. لكن هذه المرة، لديه رئيس براغماتي ووزير خارجية بالإنابة هو من المقربين منه، ومن أقربائه.
لا يوجد في القيادة الإيرانية معتدلون، لكن يوجد متطرفون وشديدو التطرف. المرشد الأعلى نفسه متطرف بما فيه الكفاية، لكنه كان يتخوف من الرئيس السابق، ومن تحالفه مع المتشددين المتطرفين في إيران. حتى اليوم، يعتقد كثيرون أن حادثة المروحية التي قُتل فيها رئيسي لم تكن حادثة قط.
ما الذي يجري حالياً في طهران؟ حالياً، ليس لدى نظام الملالي مصلحة في نشوب مواجهة كبيرة مع إسرائيل والولايات المتحدة. ويدور الخلاف في الرأي حول مسألة ما إذا كان يجب الرد الآن، وبأيّ قوة.
أغلبية الأصوات التي تأتي من طهران الرسمية تطالب بانتقام كبير ومباشر. الجانب البراغماتي يمثله في الأساس الرئيس بازشكيان. المرشد الأعلى دعم انتخابه قبل شهر، من دون حماسة، لأنه كان بحاجة إليه. فبعد أن هاجم إسرائيل في نيسان، واصطدم بالائتلاف الأميركي، أدرك خامنئي أنه إذا قرر الرد مباشرة ضد إسرائيل في المرة المقبلة، فسيكون بحاجة إلى ذريعة.
جرى انتخاب بازشكيان من أجل تحسين الاقتصاد، وأيضاً للوقوف على الحياد دعماً للمرشد الأعلى في أوقات الأزمة. إذا قرر خامنئي تأجيل الرد، فإن الإعلام المؤسساتي سيفسّر ذلك بأنه استجابة لطلب من الرئيس الإيراني وآخرين. والانطباع أن أغلبية الجمهور الإيراني لا تريد حرباً انتقاماً لاغتيال هنية. كل الاتهامات بالتنازل عن السيادة والكرامة الوطنية ستوجّه إلى الرئيس بازشكيان، وسيظل خامنئي فوق الانتقادات. وسيحاول المتطرفون المتشددون التبرير أنهم طالبوا بردّ مباشر وقاسٍ ضد إسرائيل، بغض النظر عن النتائج. لكنهم اضطروا إلى التنازل لأن الدستور يجعل المرشد الأعلى هو مَن يتخذ القرار الأخير. حتى كتابة هذا المقال، خامنئي لم يقرر بعد، لكن من المهم أن نتذكر أنه حتى لو قرر تأجيل الرد، فإن إيران لن تتنازل عن الانتقام.
عن "معاريف"