الحرب الدموية الإسرائيلية على قطاع غزة في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر الماضي الذي شنته حركة "حماس" على مستوطنات غلاف القطاع، جعلت إسرائيل تخسر الرأي العام الدولي بصورة متسارعة بسبب الأعمال البربرية الانتقامية التي نفذها جيش الاحتلال في غزة والتي ترقى إلى مستوى جرائم الحرب. وهو ما أدى إلى حالة من الغضب في إسرائيل والتي كانت أساساً نتيجة لتحول الرأي العام العالمي وبالذات الرأي العام الغربي من مؤيد وداعم لإسرائيل بصورة كبيرة إلى منتصر للشعب الفلسطيني الذي يتعرض لإبادة. وفي إطار الحرص على مبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي وقيم العدالة والمساواة، على عكس القيادات الغربية التي تقول مالا تفعل عندما يتعلق الأمر بمصالحها وحلفائها. وما جعل الإسرائيليين يشعرون بالاحباط الشديد هو أن كل محاولاتهم لتجريم "حماس" وتشبيهها بحركة "داعش" تارة وبالنازية تارة أخرى، وتحميل الشعب الفلسطيني في غزة المسؤولية عن هجوم "حماس" بادعاء أنه يمثل الحاضنة الشعبية لفصائل المقاومة، لم تنجح في كسب الرأي العام الغربي، على الرغم من الدعم اللا محدود الذي قدمته الدول الغربية لإسرائيل في عدوانها على الشعب الفلسطيني.
لقد خصصت إسرائيل مبالغ طائلة لحملة إعلامية ترويجية في إطار ما يسمونه "هسبراة" لشيطنة العدو الفلسطيني وتبييض صفحة إسرائيل ولكن دون أي نجاح يذكر. وبالعودة للسنوات السابقة وفي حرب عام 2014 على سبيل المثال، استطاعت إسرائيل آنذاك أن تقنع العالم بأنها تدافع عن نفسها على الرغم من أن حجم الضحايا الفلسطينيين فاق 32 مرة حجم الضحايا الإسرائيليين. ولكن في هذه المرة الصورة مختلفة والسبب الرئيس أن حجم الجرائم الإسرائيلية في هذه الحرب تجاوز حدود العقل وشكل سابقة خطيرة للغاية. وتحولت إسرائيل إلى دولة مجرمة لا يستطيع أحد أن يستوعب ما تقوم به حتى الدول التي دعمتها بدأت تضيق ذرعاً بحجم القتل والدمار والتجويع ومختلف أشكال الجرائم التي أدانتها واعتبرتها كل منظمات حقوق الإنسان عبر العالم أنها ترقى إلى مستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
ضغط الرأي العام في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وكل الدول الأوروبية وعدم قبول فكرة "الدفاع عن النفس" التي حاولت إسرائيل وداعموها الترويج لها، أفقد الإسرائيليين عقلهم. فهذه المرة فقدت إسرائيل صفة الضحية، وتجاهل العالم جريمة "الهولوكوست" النازية تجاه اليهود، وغيرهم طبعاً، حتى أن الشعوب الأوروبية الأكثر تعاطفاً مع إسرائيل بسبب عقدة الذنب المتمثلة بدور أوروبا في اضطهاد اليهود والتمييز العنصري ضدهم وصولاً إلى المحرقة، باتت لا تقبل أن تستخدم السلطات الإسرائيلية هذه الذريعة للحصول على الدعم والغطاء على جرائمها على اعتبار أن اليهود مطاردون ومستهدفون. بمعنى أن جرائم إسرائيل غطت على جرائم الغرب أو على الأقل وضعتها في هامش ضيق جداً في التعامل مع هذا المستوى غير المعقول من الجرائم ضد المدنيين.
التحولات في الرأي العام الغربي كانت صادمة لإسرائيل ليس فقط بسبب حجم التظاهرات التي عمت العواصم والمدن الغربية من الولايات المتحدة وحتى آخر دولة غربية، وكانت هائلة وقوية ومتواصلة، بل وكذلك بسبب مستوى ونوعية التأييد للفلسطينيين بما في ذلك حقهم في مقاومة الاحتلال وصولاً لتبرير هجوم السابع من أكتوبر. والصدمة الأكبر كانت في التحول الكبير في الرأي العام الأميركي وخاصة في أوساط الشباب حيث أظهر استطلاع للرأي، أجراه باحثون من جامعة هارفارد وشركة هاريس بول ونشر منتصف شهر كانون الأول الحالي، أن 51% من الشباب الأميركي من جيل 18 حتى 24 عاماً أن حل الصراع هو نهاية دولة إسرائيل وتسليمها للفلسطينيين. وتعتقد أغلبية 60% منهم أن هجوم "حماس" كان مبرراً، و67% يرون أن اليهود ظالمون.
التغير الكبير في صورة إسرائيل أثر على نشاطاتها المعتادة وعمليات الترويج التي دابت عليها كاستخدام هوليوود منبراً لتذكير العالم بالمحرقة. فاليوم تحجم الشركات الكبرى عن التعاطي مع هذه المسألة حتى لا تقاطع وتلقى مصير شبكة مقاهي "ستارباكس". وصار الإسرائيليون يخشون من الظهور العلني في بعض الأماكن ومن إظهار الدعم لإسرائيل. ولم يعد سلاح الاتهام بمعاداة السامية الذي استخدم ذريعة لمنع انتقاد السياسة الإسرائيلية ينفع في منع المواطنين في أميركا وأوروبا من التظاهر ضد جرائم إسرائيل. حتى أن الكوفية الفلسطينية باتت مطلوبة بشكل كبير جداً في الدول الغربية ونفذت كل الكميات المعروضة في محلات البيع. ورمزية لبس الكوفية ورفع العلم الفلسطيني الذي بات يغطي مساحات واسعة في التظاهرات الحاشدة يعكس خسارة الرواية الإسرائيلية الهائلة لساحات كانت تحتكرها.