أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي، صباح أمس، عن استعادة جثث ستة أسرى من المحتجزين لدى الفصائل في غزة، في إطار عملية عسكرية نفذت، الليلة قبل الماضية، بالتعاون بين الجيش وجهاز الأمن العام "الشاباك". وهكذا يتقلص عدد الأسرى الإسرائيليين في غزة من 115 إلى 109، حسب التقديرات الإسرائيلية. ويتوقع أن يكون بينهم 35 قتلى على الأقل. هذه العملية تعد إنجازاً لرئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، الذي يصر على وضع شروط لإعاقة التوصل إلى صفقة تبادل مع حركة "حماس" والفصائل الأخرى في غزة. وادعاء نتنياهو يستند إلى أن عنصر الوقت يلعب لصالح تحقيق أهداف الحرب بما فيها تحرير المحتجزين دون دفع ثمن باهظ يفضي إلى وقف الحرب قبل أن تستكمل كل الأهداف المعلنة، ومنها القضاء على حركة "حماس"، وضمان عدم وجود أي تهديد قادم من قطاع غزة لتكرار ما حصل في السابع من أكتوبر الماضي.
تحرير الجثث ونقلها إلى إسرائيل يبعث على الأسى والحسرة والغضب لدى عائلات الأسرى الإسرائيليين، التي لا تزال تتهم نتنياهو بأنه يضيع وقتاً ثميناً في عدم التوصل إلى صفقة تعيدهم أحياءً بدلاً من تعريضهم لخطر الموت واستعادتهم جثثاً. وبعض العائلات التي استلمت جثث أبنائها، أمس، اتهمت نتنياهو صراحة بالمسؤولية عن مقتلهم، خاصة أن بعضهم قد ظهروا في فيديوهات وصور وكانوا على قيد الحياة في غزة. لكن احتجاج واتهامات أهالي الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين في غزة ومناصريهم لا تضير نتنياهو، ولا تؤثر على مواقفه وقراراته المسكونة بالسعي لتحقيق مصالحه الشخصية قبل أي شيء آخر في إسرائيل.
الآن يستطيع نتنياهو أن يقول لمنتقديه: ألم أقل لكم إن الضغط العسكري يؤدي إلى نتائج إيجابية في إضعاف "حماس" وتحقيق إنجازات على الأرض، وبالتالي لا داعي للاستعجال والخضوع للضغوط لعقد صفقة بأي ثمن. ولقد استخدم نتنياهو هذا الادعاء سابقاً عندما تنازلت "حماس" تحت ضغط الوسطاء عن مطلبها القاضي بوقف الحرب بصورة كاملة ونهائية قبل تنفيذ المرحلة الأولى من الصفقة، وعندها قال نتنياهو: إن الضغط العسكري الذي يمارسه جيش الاحتلال هو الذي أدى إلى تراجع "حماس" عن شرطها الأهم. وسيكرر نفس اللازمة الآن للاستفادة من عنصر الوقت المهم له جداً للبقاء سياسياً.
استطلاعات الرأي التي أجريت مؤخراً، ومنها استطلاع صحيفة "معاريف" الذي نشر الجمعة الماضي، تظهر تراجع المعارضة وتحوّل حزب "الليكود" الذي يقوده نتنياهو إلى الحزب الأول بحصوله على 22 مقعداً مقابل 21 مقعداً لحزب "المعسكر الرسمي" الذي يتزعمه بيني غانتس أقوى المعارضين. ويظهر تفوق نتنياهو على غانتس في السؤال عن الأنسب لتولي منصب رئيس الحكومة؛ حيث حصل نتنياهو على 40% بينما حصل غانتس على 39%. وبالتأكيد عندما يرى نتنياهو أن الوقت يلعب لصالحه، وأن وضعه يتحسن في أوساط الرأي العام، وأن احتمالات إعادة انتخابه وفوزه برئاسة الحكومة مرتبطة بالوقت، سيحاول المماطلة وإضاعة الوقت طالما هو يستطيع ذلك.
مشكلة نتنياهو هي مع الإدارة الأميركية الحالية، التي تعتقد أن إضاعة الوقت، وعدم تنفيذ صفقة قبل تشرين الثاني القادم موعد إجراء الانتخابات الرئاسية الأميركية، قد يهددا فرص كامالا هاريس مرشحة الحزب الديمقراطي مقابل الرئيس السابق الجمهوري دونالد ترامب. ففي الوقت الذي أظهرت فيه هاريس تشدداً لفظياً ضد الحكومة الإسرائيلية، لا يلاحظ أي تغير حقيقي في الموقف الأميركي، فالدعم العسكري يزداد والصفقات الكبرى بعشرات مليارات الدولارات تعقد مع إسرائيل. ولا يبدو أن تعهد الرئيس جو بايدن بإنجاز وقف إطلاق نار قبل نهاية ولايته يستقيم مع الواقع الذي يشي بأن الولايات المتحدة تقترب من تبني الموقف الإسرائيلي أكثر من القيام بدور الوسيط الذي يتمتع ولو بالحد الأدنى من الموضوعية التي تتيح التوصل إلى صفقة.
التفاصيل التي نشرت للمقترح الأميركي الجديد تنص على التفاوض حول وقف الحرب، ولا تتضمن اتفاقاً أو التزاماً بذلك، وهذا ما أراده نتنياهو، وعلى إجراء مباحثات تقنية بشأن محور فيلادلفيا، وإيجاد آلية رقابة على عودة النازحين من جنوب قطاع غزة إلى شماله، والتفاوض على إعادة الإعمار في المرحلة الثانية. ولا تنص على انسحاب إسرائيل الكامل من قطاع غزة، حسب ما نشر في تلفزيون "العربي"، أول من أمس. وإذا صحت هذه المعلومات، وهي أقرب لما ينشر في وسائل الإعلام الإسرائيلية، فهذا يعني تراجع الإدارة الأميركية عن الصيغة التي طرحت في تموز الماضي، وتبنيها للمطالب الإسرائيلية التي أضيف عليها مطلب إبعاد حوالى 150 أسيراً فلسطينياً من المتوقع الإفراج عنهم إلى خارج فلسطين.
إذاً، الأمور تجري لصالح نتنياهو، وهو ينجح في كسب المزيد من الوقت، وإذا اضطر للذهاب إلى صفقة فسيكون ذلك فقط لتنفيذ المرحلة الأولى منها، في ظل إصراره على العودة للحرب متى يشاء، وفي ظل عدم التراجع عن السيطرة بطريقة ما عن محور فيلادلفيا الفاصل بين رفح ومصر، ومحور "نتساريم" الذي يفصل جنوب قطاع غزة عن شماله. وإدارة بايدن الهزيلة تساعده، سواء أرادت ذلك أم لا، بالاستجابة لمطالبه وشروطه.