لا نتجنى ولا نبالغ حين نقول إن أمريكا التي يبذل وزير خارجيتها جهوداً متواصلة لمعالجة حرب غزة، مركزاً على الأيام التالية لوقفها، يتعامل مع غزة والشأن الفلسطيني عموماً بمنطق حقل التجارب، وكلما حضر للمنطقة وطاف على أصحاب القرار فيها، يطرح أفكاراً تدل على أن الإدارة لا سياسة لها غير تغطية إسرائيل، والابتعاد عن السعي لوقف إطلاق النار والتركيز على المجهول، تحت عنوان ماذا يجب أن يكون في اليوم التالي.
تحت هذا العنوان عرض على محادثيه العرب فكرة تقسيم غزة بحيث يكون شمالها قطعة منفصلة عن وسطها وجنوبها، وهذا ما تريده إسرائيل بالضبط، وما يعني دون قرار رسمي ودون ردود فعل دولية رافضة، أن يكون شمال غزة تحت السيادة الإسرائيلية الفعلية، ولكن وراء غطاء دولي، وكأن شمال غزة صار جزءً من مستوطنات الغلاف، ومنطقة أمنية عسكرية تتحكم بها إسرائيل، إذ أنها وحتى لو وجدت عناصر دولية متعددة الجنسيات في ذلك المكان، فتظل السيطرة العملية لإسرائيل التي لن تتخلى عن معبر إيريز تفتحه وقتما تشاء وتغلقه وقتما تشاء وكذلك الأمر بصدد المعابر الأخرى.
لم يقبل أي مسؤول عربي هذه الفكرة، وبالتأكيد لم ولن يقبلها الفلسطينيون، ذلك أن تقسيم غزة على هذا النحو وتحت أي ذرائع مؤقتة أم دائمة، ربما يغري بإنعاش الخطة الإسرائيلية المعدة للضفة، وهي تمزيقها بكانتونات منفصلة، ربما تصل حد تطوير فكرة روابط القرى التي أفشلها الشعب الفلسطيني بصورة حاسمة، لتطرح من جديد بصورة مختلفة كروابط المدن، وقد جرى حديث إسرائيلي كثير حول هذه الفكرة.
السيد بلينكن يتحرك وكأنه يحاول اكتشاف الملف الفلسطيني من جديد، واذا ما أراد أن يكون اكثر دراية وعلى نحو يليق بمكانته كوزير خارجية دولة عظمى، فما عليه إلا أن يعيد قراءة الملفات المحفوظة في أرشيف الخارجية الأمريكية لعله يقتنع بأن الحل الوحيد لقضية غزة بعد الحرب والضفة كذلك هو دولة فلسطينية واحدة موحدة وعاصمتها القدس الشرقية، دون ذلك فقضية بحجم القضية الفلسطينية أصبحت أهم قضية مؤثرة في الكون، لا ينفع التعامل معها كحقل تجارب كان غيره قد سبقه في التعامل معها هكذا ، لتظل بؤرة اشعال واشتعال في المنطقة، وهذه الحقيقة ارغمته وارغمت أسلافه الأمريكيين على القيام بعشرات الزيارات ولم تنجح سوى بإنتاج حرب وراء حرب.