هنالك خطأ شائع يقع فيه ليس فقط هواة السياسة، بل وبعض المحترفين عند تناول السياسات الأميركية في الشرق الأوسط وعلاقاتها مع إسرائيل.
الولايات المتحدة سياسياً، ثقافياً، تاريخياً، وحتى دينياً تشبه إسرائيل إلى حد بعيد، سواءً من حيث النشأة، التطور التاريخي أو بتفسيرات الدين وفق أساطيرهم.
هذا ينسحب أيضاً على المناهج السياسية الحاكمة بالولايات المتحدة، في أمريكا يوجد نسخٌ من تياراتٍ مختلفة كما هو الحال في دولة الاحتلال.
وإن كان معظم هؤلاء جميعاً ينتمون لنفس الفكر الصهيوني، إلا أن لديهم رؤىً مختلفة للطريقة الأفضل للحفاظ على المشروع الصهيوني وتمكينه، والذي بات يتحول في نظر العالم إلى مشروع أبرتهايد عنصري إلى جانب مضمونه الاستعماري.
منذ انطلاقة المفاوضات فعلاً قبل أسبوع بغياب حماس، بدأت واشنطن والمتعاونين معها يسربون الأخبار، عن أن المفاوضات جادّة وبنّاءة وتجري في أجواء إيجابية، قبل الإعلان عن أن "الفرق الفنية ستواصل المحادثات خلال الأيام المقبلة والعمل على تفاصيل التنفيذ، بما في ذلك الترتيبات لتنفيذ الجزئيات الإنسانية الشاملة للاتفاق، بالإضافة إلى الجزئيات المتعلقة بالرهائن والمحتجزين ...إلخ ".
من المؤكد أنهم سيمددونها الأسبوع القادم إلى أسبوع آخر، وهكذا دواليك، من أجل تحقيق أكثر من هدف في آن واحد، منع الإيرانيين وحلفائهم من الرد على ما تعرضوا له من استباحة لسيادة أراضيهم، أو على الأقل تأجيل ذلك حتى تحقيق حشد أكبر عدد ممكن من الأساطيل والقوات الأطلسية في المنطقة، ومحاولات تنفيس قوة الرد وفق معلومات استخباراتية كما حدث بالأيام الماضية قبل إطلاق صواريخ الكاتيوشا وبعض المسيرات رغم إصابتها بعض الأهداف العسكرية كما أعلنه حزب الله واعترفت به إسرائيل، مما حقق أيضاً إلى حد ما إحباط قوة الردع الإسرائيلية وتعميق الأزمة الإسرائيلية القائمة والمتدحرجة.
وبالتالي فإن الولايات المتحدة ومن خلال وجود رئيس أركان الجيوش الأمريكية في المنطقة، تسعى إلى عدم توسع الحرب عشية الانتخابات الأمريكية، ومنح نتنياهو أطول وقتٍ ممكن لإكمال مذبحته وإنجاز ما لم يتمكن جيشه من إنجازه حتى الآن بتقديم كل مساعدة ممكنة له أو حتى بشراكة.
هي اللعبة الأمريكية نفسها التي أتقنها ثعلب الدبلوماسية الأمريكية هنري كسينجر، لم تتبدل أو تتغير قاعدة واحدة من قواعدها منذ سبعين عاماً حين دخلت واشنطن إلى عالم الصراع العربي – الإسرائيلي ، فيتم الاكتشاف في الحال من أي مهتم بالشأن السياسي، إن لم يكن أعمى أو جاهل، أنهم يكررون لعبة تمرير الوقت نفسها دون أي تغيير أو تعديل في أي من قواعدها، بينما يكون الإسرائيليون أنجزوا ما يريدون إنجازه وتحويل الإنجازات إلى أمرٍ واقع على الأرض لا مجال لتغييره أو التراجع عنه إلا في حال تحقيق مصالحهم، حتى يصبح ما لنا لهم لوحدهم أو لنا ولهم في أحسن الأحوال.
وهنا لم يكن بإمكان الإيرانيين وحزب الله، من حيث المبدأ، وبغض النظر عن الخلاف أو الاتفاق مع مواقفهم، سوى التجاوب مع مبدأ المفاوضات وفي نفس الوقت استمرار عمليات الاستنزاف والمقاومة في جنوبي لبنان وإيقاع الخسائر بالاحتلال في شتى القطاعات، كي لا يتم اتهامهم في إحباطها ونسفها قبل انطلاقها، وبالتالي من أجل عدم اتهامهم بتفويت فرصة لوقف المذبحة التي يتعرض لها شعبنا.
التقدير بأن كل الجهات الأمريكية في كل الأوقات متفقون على نفس التكتيكات لإدارة الصراع ومن الموقف من حماية إسرائيل بجوهرها ودورها، هو خطأ شائع، كما هو أيضاً خطأ شائع الاعتقاد بأن هنالك تفاوتاً كبيراً قائماً بين الحزبين في الولايات المتحدة بشأن حقوق شعبنا الوطنية.
قد يكون هنالك تفاوت بتكتيك الإدارة، إلا أن الهدف الاستراتيجي لهم هو واحد بغض النظر عن تبدل الرؤساء الذين لا يرسمون سياسات جوهرية لبلدهم أو الحكومات الإسرائيلية التي قد يختلفون مع بعضها في هوامش السياسات لا في جوهرها بشأن المنطقة.
الفارق الوحيد هو أن الجيل الشاب في أميركا ينزع للخلاص من هذه العقيدة، فيما يزداد الارتباط المتطرف بها لدى الجيل الجديد في إسرائيل الذي يجنح نحو التطرف وممارسة الإرهاب بحق شعبنا وإنكار وجوده.
لا يتعلق الأمر هنا فقط بالمواقف من قضية شعبنا الفلسطيني على مدار القرن الماضي من التاريخ، لكن من معظم قضايا الشعوب التي تعاملت معها الإدارات الأمريكية المتعاقبة وتنفيذ الجرائم بحقها منذ نهايات الحرب العالمية الثانية تحديداً.
لذا هنالك جهود أمريكية إسرائيلية من أجل إبقاء الوضع كما هو عليه من وضع قائم بوقائعه الجديدة الناشئة. فغزة لم يعد لديها ما تخسره بعد جعلها مكاناً غير قابل للحياة، ولكن إسرائيل لديها أشياء كثيرة تخسرها وأول هذه الأشياء هي أزمة الفكر الصهيوني الذي يثبت فشله كل يوم ويتحول إلى نظام أبارتهايد عنصري منبوذ من كل العالم ومن بعض يهود العالم أيضاً، إضافة إلى تفاقم أزماتها المختلفة، إلى جانب هيبة أمريكا التي فقدتها بهذا الشكل لأول مرة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وهيمنتها الآخذة بالأفول.
فمن الآن إلى موعد انتخابات الرئاسة الأمريكية، لا مكان لأي وقف للنار حقيقي ودائم في غزّة، بل مزيداً من التصعيد الإجرامي هنالك وبشراكة أمريكية وبحق مخيمات الضفة الغربية وباقي مناطقها بما فيها القدس وهي المساحة المفترضة لمملكة يهودا المزعومة التي يسعون لإقامتها وتنفيذ رؤيتهم فيها من خلال ما أعلنه الاحتلال اليوم من نيته القيام بحملة أمنية واسعة، يبدو أنه ابتدأها بمجزرة طولكرم أمس.
في هذا الخصوص وفي حال لم نسعى إلى التقييم لما جرى وما يجري، ولم نرتقي إلى مستوى الأحداث والمسؤولية الوطنية العليا بكافة متطلباتها التي تحدثت عنها في مقالات سابقة، فإني أجد نفسي متفقاً مع ما كتبه الصديق نبيل عمرو "إن ذلك سوف يوصلنا أن نقول لقد أُكلنا يوم تمكن المحتل من الاستفراد ببلدنا قطعة قطعة، فلماذا لا نعيد المطالبة بكل قرارات الشرعية الدولية وعلى رأسها قرار 181، مضيفاً: "إنها فكرة برسم النقاش لعلنا نَخلص إلى آليات تُخلصنا من سرطان الاحتلال".