ارتفعت وتيرة اقتحامات باحات الأقصى المبارك من قبل قطعان المستوطنين منذ تشرين الأول / أكتوبر الماضي، وتندرج عملية اقتحام وزير ما يسمى الأمن القومي الصهيوني المتطرف "إيتمار بن غفير" أخيراً لباحات المسجد الأقصى المبارك، بحراسة مشددة من شرطة الاحتلال الإسرائيلي في إطار أهداف سياسية إستراتيجية بعيدة لتهويد القدس ومعالمها ورموزها الدينية وفي المقدمة منها تهويد الأقصى. يسعى الاحتلال بشكل لافت إلى تصعيد عدوانه على القدس عامة، والمسجد الأقصى بشكل خاص؛ وصولاً إلى محاولة تقسيمه الزماني والمكاني بين المقدسيين والمستعمرين اليهود، بغرض فرض الأمر الواقع التهويدي في نهاية المطاف.
البعد السياسي
ازدادت وتيرة الاقتحامات التي قامت بها شخصيات ورموز سياسية ودينية صهيونية لباحات المسجد الأقصى، إلى جانب الدعوات المكثفة لمخطط تقسيم المسجد، وقد تم تكريس حيّز كبير لها في إطار خطاب الأحزاب الإسرائيلية بتلاوينها المختلفة. وتهدف دولة الاحتلال الصهيوني من وراء الاقتحامات المتكررة لباحات المسجد الأقصى، إقامة صلوات تلمودية مع؛ حتى يبني على ذلك في المستقبل حق المطالبة الباطلة بتقسيم باطل للأقصى، كما فرض مثل هذا التقسيم الباطل على المسجد الإبراهيمي في الخليل في السابق. واللافت أن إسرائيل لم تتوقف عند هذا الهدف المرحلي، إذ إن أغلب التصريحات والممارسات الصادرة عن قادة إسرائيليين، وكذلك جماعات يهودية استيطانية تؤكد أن الاحتلال يطمع في نهاية الأمر ببناء هيكل أسطوري زائف على حساب الأقصى. ويمكن الجزم بأن الدعوات لتقسيم المسجد الأقصى ليست حديثة العهد، لكنها بدأت منذ احتلال الجزء الشرقي من مدينة القدس في حزيران / يونيو من عام 1967، وإن الذين صرحوا منذ ذلك العام ودعوا إلى تقسيم الأقصى، أو إلى بناء هيكل باطل على حساب الأقصى؛ كانوا من القيادات السياسية والعسكرية أو قيادات دينية أو حقوقية في المجتمع الإسرائيلي.
وتجددت الدعوات المتواترة لاقتحام الأقصى، ولهذا ثمة مشاركة واسعة لهذا التوجه الصهيوني، ولم تكن آخرها عملية اقتحام عضو الكنيست "ايتمار بن غفير" لباحات الاقصى المبارك؛ وستسمر الاقتحامات من قبل قادة سياسيين وقضاة، وقد يكون بينهم أيضاً، أعضاء كنيست وآخرين من أجهزة الأمن الإسرائيلية المختلفة، جنباً إلى جنب مع قطعان المستوطنين المتطرفين، وبحماية رسمية من شرطة وجيش الاحتلال الإسرائيليين. والثابت أن إسرائيل قد بدأت في تسريع مخططاتها، لجهة تهويد القدس، والوصول إلى مرحلة تمكنها من بناء الهيكل المزعوم على حساب الأقصى المبارك، فضلاً عن محاولة بسط السيطرة الإسرائيلية المطلقة على المسجد، وفرض مخطط تقسيمه زمانياً ومكانياً.
تاريخ الاقتحامات
يمكن الجزم بأن اقتحامات المسجد الأقصى من قبل المستوطنين وقادة إسرائيليين وبحماية الشرطة الإسرائيلية لم تتوقف منذ عام 67، ومن أهم تلك الاقتحامات اقتحام مجموعة من حركة بيتار مؤلفة من 12 شابا المسجد الأقصى في 11 يوليو/تموز 1971، وقد حاولت الصلاة فيه، وفي 22 من الشهر نفسه أقامت مجموعة أخرى من الحركة الصلاة في الحرم القدسي. وكان الاقتحام الأخطر لباحات الأقصى يوم 28 سبتمبر/أيلول 2000 لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون، بحماية مئات من الجنود والمستوطنين، لتندلع إثر ذلك انتفاضة الأقصى التي استشهد وجرح فيها آلاف الفلسطينيين. كما كان عام 2009 عاماً قياسياً للاقتحامات الإسرائيلية لباحات الأقصى المبارك، ففي 24 سبتمبر/أيلول من العام نفسه، اقتحمت عناصر من الوحدة المسماة "خبراء المتفجرات" في شرطة الاحتلال المسجد الأقصى وقامت بجولة داخل باحاته. وفي السابع والعشرين من الشهر نفسه اندلعت مواجهات مع الشرطة الإسرائيلية وجماعات يهودية داخل الحرم القدسي الشريف وعند بواباته، أسفرت عن إصابة 16 فلسطينياً واعتقال آخرين.
الانقسام البغيض
لم تتوقف الاقتحامات لباحات الأقصى خلال السنوات الأخيرة، لكن الاقتحام الأخطر لقطعان المستوطنين بحماية شرطة وجيش الاحتلال، كان خلال شهر رمضان في أيّار/مايو من العام 2021، والتي كان من أهم تداعياتها انطلاقة هبة الاقصى الرمضانية، التي شارك فيها الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، وقد ترسخت خلالها الوحدة الوطنية بشكل جلي ولافت. وثمة اعتقاد بأن اقتحام عضو الكنيست "ايتمار بن غفير" الأخير يحمل في طياته مؤشرات ودلالات عن نية إسرائيل استغلال انحياز إدارة بايدن ودول الغرب لمواقفها وتصوراتها، فضلاً عن استمرار حالة الانقسام الفلسطيني البغيض، للإطباق على مدينة القدس وتهويد كافة مناحي الحياة فيها. والمؤكد هو أن اقتحام المسجد الأقصى وتدنيسه من قبل المستوطنين اليهود أو أي مستعمر صهيوني بغض النظر عن موقعه وانتمائه الحزبي، يعكس بالتأكيد قرارات اتخذتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بغية السيطرة على المسجد وفرض السيادة اليهودية المطلقة عليه، حيث لم تعد فكرة التقسيم الزماني والمكاني مجرد شعار مرفوع، بل باتت أمراً واقعاً، ومقدمة لتهويد مدينة القدس، وفي المقدمة منها المسجد الأقصى المبارك. فالاقتحامات الإسرائيلية المتكررة لباحات الأقصى، تتطلب الضغط عربياً وإسلامياً لإصدار قرار دولي من مجلس الأمن، ملزم لإسرائيل لمنع التقسيم الزماني والمكاني في المسجد الأقصى المبارك، وإدانة كافة الإجراءات الإسرائيلية التي من شأنها تغيير طابع مدينة القدس والمسجد الأقصى على وجه الخصوص. إضافة إلى ذلك يمكن إعطاء بعدٍ عربي وإسلامي لقضية القدس وما يتعرض له الأقصى المبارك، والإسراع في مطالبة الأمم المتحدة بتطبيق قراراتها المتعلقة بمدينة القدس والمسجد الأقصى وكافة المقدسات، والصادرة منذ عام 1967، والتي تدعو بمجملها إلى وقف الاستيطان وتفكيك المستوطنات، وبطلان التغيرات القسرية التي فرضتها دولة الاحتلال الإسرائيلي. السؤال المطروح ألا تستحق القدس الإسراع في تحقيق الوحدة الوطنية؟؛ أم إننا سنبقى في دوامة تحميل المسؤولية لمن يفشل ويعكر جلسات المصالحات ونتائجها، فالوقت من دم والتاريخ لا يرحم.