يُفترض بمن يتابع تطوّر الوضع الداخلي الإسرائيلي عن كثب التوقّف عند تطوّر في غاية الأهمّية والخطورة. يتمثّل هذا التطوّر في الإصرار الإسرائيلي على الفصل بين حربَي غزّة ولبنان. بات لبنان والحرب مع الحزب حاضرين أكثر من أيّ وقت في إسرائيل، في كلّ الأوساط الشعبيّة والسياسية والأمنيّة فيها.
يشير الرفض الإسرائيلي للربط بين الحربين، في غزّة وفي جنوب لبنان، إلى وجود حسابات مختلفة داخل الدولة العبريّة. تقوم تلك الحسابات على أنّ الوضع على طول “الخطّ الأزرق” بين إسرائيل ولبنان لا يمكن أن يعود إلى ما كان عليه قبل الثامن من تشرين الأوّل الماضي. يومذاك، مع مضيّ 24 ساعة على عملية “طوفان الأقصى” التي شنّتها “حماس” انطلاقاً من غزّة، قرّرت “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران، عبر الحزب، فتح جبهة جنوب لبنان “إسناداً لحرب غزة”.
لا شكّ أنّ لرفض إسرائيل الربط بين أيّ وقف للقتال في غزّة وعودة الوضع مع لبنان إلى ما كان عليه قبل حرب غزة، تداعيات خطيرة على غير صعيد في لبنان. يشمل ذلك في طبيعة الحال مستقبل “القوّة الدولية المعزّزة” الموجودة في جنوب لبنان بموجب القرار الرقم 1701 الذي صدر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في مثل هذه الأيام من عام 2006.
أيّ مستقبل للقوّة الدولية التي تحوّل جنودها وضبّاطها إلى شهود زور، بل إلى رهائن لدى إيران، مع إصرار “الجمهوريّة الإسلاميّة” على رفض أيّ تطبيق للبنود الواضحة التي تضمّنها القرار؟ أيّ مستقبل للقوّة الدوليّة التي تضمّ عناصر من نحو 40 دولة، بينها فرنسا وإيطاليا وإسبانيا؟
بالأمس وافق مجلس الأمن بالاجماع على تجديد مهمة اليونيفيل في لبنان لعام آخر. لكنّ ذلك لا يعني أنّه لن يطرأ تغيير على مهمّة هذه القوّة مستقبلاً عندما تستتبّ الأمور ويتبيّن هل الحرب بين إسرائيل والحزب واقعة أم لا، علماً أنّ الاتّجاه العامّ يسير نحو اندلاع هذه الحرب في مرحلة معيّنة ترى فيها إسرائيل أنّه لا بدّ من وضع نهاية للوضع الذي كان قائماً قبل الثامن من تشرين الأوّل 2023.
يعود ذلك إلى أنّه إذا كانت حرب غزّة تحوّلت إلى حرب بنيامين نتنياهو الذي ربط بها مستقبله السياسي، فإنّ حرب لبنان تبدو للأسف حرب إسرائيل كلّها، خصوصاً في ضوء وجود ما يزيد على 60 ألف إسرائيلي هجّروا من مستوطنات في الجليل قريبة من الحدود مع لبنان. هؤلاء موزّعون على فنادق أو منازل ضيافة في مختلف أنحاء إسرائيل. قرّرت الحكومة الإسرائيلية حديثاً تمديد تمويل إقامة هؤلاء حتّى نهاية شهر أيلول المقبل.
تبحث إسرائيل عن حلّ الأزمة الوجوديّة الناجمة عن وجود مثل هذا العدد من النازحين بسبب صواريخ الحزب وطائراته المسيّرة والمدافع التي يمتلكها.
يمكن الكلام عن اهتمام دوليّ بجبهة لبنان من منطلق أنّ تهجير نحو ستّين ألف إسرائيلي سيطرح عاجلاً أم آجلاً مسألة تتعلّق بوجود إسرائيل كملجأ آمن ليهود العالم. اليوم بات الإسرائيلي المقيم في كريات شمونة يعتبر أن ليس في استطاعته العودة إلى منزله. في المستقبل القريب، سيطرح المقيم في تل أبيب وحيفا سؤالاً يتعلّق بمستقبل وجوده في تلك الدولة وهل هذا الوجود آمن أم لا… أم من الأفضل له الذهاب إلى قبرص أو أيّ مكان آخر في العالم؟
لم تكن جولة القتال الأخيرة التي اعتبر الحزب، بلسان أمينه العامّ حسن نصرالله، أنّها انتهت من دون أن تنتهي، سوى فصل آخر من حرب دخلت شهرها الحادي عشر. كانت جولة تصعيدية في حرب مرشّحة للاستمرار أدّت، إلى الآن، إلى إلحاق دمار هائل بقرى وبلدات في جنوب لبنان في ظلّ لامبالاة من الحزب وضغوط يمارسها على الدولة اللبنانيّة كي تدفع تعويضات عن حرب لا علاقة لها بها من قريب أو بعيد.
في الأسابيع المقبلة، ستنصرف إسرائيل إلى الحرب مع لبنان في ظلّ وجود أزمة وجودية تعاني منها بسبب الأسلحة التي يمتلكها الحزب، وهي أسلحة موجودة في أراض غير بعيدة عن المنشآت الحيوية والمدن الإسرائيلية. وجدت إسرائيل حلّاً مؤقّتاً لغزّة من دون أن يعني ذلك أنّها استطاعت تصفية القضيّة الفلسطينية. لجأت إلى تدمير القطاع عن بكرة أبيه. تتحدّث الأمم المتحدة والوكالات التابعة لها عن تهجير ما يزيد على مليونَي فلسطيني من غزّة وعن توقّف الخدمات التي كانت تقدّمها تلك الوكالات، بما في ذلك “الأونروا” و”اليونيسيف”.
الأكيد أنّ العقم السياسي الإسرائيلي عاجز عن فهم أنّ تدمير غزّة لن يأتي إلّا بحلّ مؤقّت. في النهاية ما الذي ستفعله إسرائيل بملايين الفلسطينيين الموجودين في أرض فلسطين التاريخية؟
لا تعرف إسرائيل تماماً ما يمكن أن تفعله في غزّة حتى لو بات القطاع أرضاً محروقة. لكنّها تعرف أنّ عليها التوصّل، بمساعدة أميركيّة وأوروبيّة، إلى وضع جديد مع لبنان الذي تبدو خياراته محصورة بما تريده “الجمهوريّة الإسلاميّة” نظراً إلى أنّ البلد تحوّل إلى رهينة إيرانيّة.
كيف سيترجم ذلك في بلد لا وجود لقرار من أيّ نوع لدى حكومته، بل لا موقف لديها لا من حرب الحزب، التي أشعلها قرار إيراني… ولا من النفق الذي كشف عن وجوده؟
إنّه سؤال المرحلة المقبلة التي تبدو مسألة أسابيع لا أكثر. سيكتشف لبنان متأخّراً أنّ ربط مصيره بحرب غزّة كان جريمة موصوفة، خصوصاً بعدما قرّرت إسرائيل رفض هذا الربط.