في واحدة من تلك الانطلاقات التي تخصّص فيها دونالد ترمب، وصف مرشحة الحزب الديمقراطي ومنافسته للرئاسة الأميركية، نائبة الرئيس كامالا هاريس، بأنها «شيوعية».
بما أنني أشك في أن السيدة هاريس ليس لديها سوى أدنى فكرة عن الشيوعية، وهي آيديولوجية الزومبي التي خرجت عن المجال العام منذ عقود مضت، فإنني أعتقد أن حامل لواء الحزب الجمهوري لم يكن منصفاً. لكنه ليس مخطئاً تماماً في هذا السياق، ما دامت البطلة الديمقراطية تتماهى ضمناً مع سلسلة من السياسات التي يرجع تاريخها إلى عصر أفلاطون، وهي السلسلة التي تعد الشيوعية واحدة من بين العديد من أشكالها.
في الفلسفة السياسية يُسمى هذا التيار باسم «الجماعية» أو «المشاعية». أفلاطون، على الأقل في كتابه العظيم «الجمهورية»، يُصور المجتمع المثالي بأنه المجتمع الذي يحكمه أولئك الذين يعرفون أفضل ما في الحياة، والذين يتولون مهمة رعاية عامة الناس من المهد إلى اللحد. ويشعر أرسطو بالقلق من الجماهير والمجتمعات الكبيرة. وفي الواقع، يشعر بالقلق من أن المدينة التي يتجاوز عدد سكانها 100 ألف نسمة قد تواجه المتاعب.
كان المستوطنون الذين أنشأوا الولايات المتحدة أقرب إلى عبادة الفرد لدى أرسطو منهم إلى يوتوبيا أفلاطون الجماعية. لقد أتوا إلى العالم الجديد أفراداً أو جماعات أصغر من أن يحاولوا فرض هوية جماعية على الآخرين. كانوا مزارعين تحوّلوا إلى رواد في اكتشاف الطرق، وصناع القرارات، وفي النهاية بناة الأمم، وكانوا يعملون دائماً أفراداً ولا يجتمعون معاً إلا في حالات الطوارئ والظروف الاستثنائية، مثل محاربة الأعداء.
شغل اثنان من الرؤساء الأميركيين الخمسة الأوائل، وهما جون آدامز، وتوماس جيفرسون، منصب سفيرين على التوالي في بلاط سانت جيمس وفيرساي، إذ جرى تلخيص هوية الفرد بصفتها رعايا للملك. روّج آدامز وجيفرسون مع معظم البنائين الأوائل الآخرين للولايات المتحدة فكرة الحكومة الصغيرة. وحتى آنذاك أطلقوا عليها مسمى «الإدارة»، بوصفه مصطلحاً محايداً يستبعد الادعاءات المتعالية.
مع ذلك، كان من المحتم في عالم يتألف من الدول القومية التي تتمتع بسلطة مركزية، وتسودها الأوهام الجماعية، أن الولايات المتحدة التي أنشئت حديثاً لن تظل بمنأى عن التأثير على أساليب العمل السائدة في مختلف أرجاء العالم.
وسلّطت سلسلة من الحروب مع إنجلترا والمكسيك والإمبراطورية الإسبانية الضوء على ضرورة العمل الجماعي، في دولة لم يكن لديها حتى جيش نظامي دائم. كما سلّطت حرب الانفصال الضوء على ضرورة العمل الجماعي للحفاظ على الاتحاد، ولكنها خلقت أيضاً عادات «جماعية» لن تتلاشى بمجرد انتهاء حالة الطوارئ.
كانت «الصفقة الجديدة» التي وضعها الرئيس فرانكلين روزفلت، مستوحاة من الاقتصاد الكينزي، في أول استعراض رئيسي للنزعة «الجماعية» في السياسة الأميركية. بفضل نجاحها الواضح جزئياً، تمكّنت من هدم الجدار الذهني الذي كان سبباً في إبعاد الأفكار «الجماعية» عن السياسة الأميركية، باستثناء أوقات الطوارئ.
وقد تعززت الفكرة بعد الحرب العالمية الثانية، ودخول المجال السياسي الأميركي مفاهيم مثل دولة الرفاهية، والديمقراطية الصناعية، والليبرالية (التي تعني في المعجم السياسي الأميركي أن تكون على اليسار) والتقدمية، والسوق الاجتماعية، والطريق الثالث، وحتى الاشتراكية.
ورغم أن الولايات المتحدة انتهى بها المطاف إلى تأسيس حزب شيوعي صغير، مع دائرة محدودة من المتعاطفين بشكل رئيسي بين النخب الأدبية والفنية، لم تتحول الشيوعية إلى قوة رئيسية في السياسة الأميركية.
وفي اعتقادي أن الولايات المتحدة قد تلقّت التحصين ضد «الجماعية» الشيوعية بسبب المأساة التي امتدت سبعة عقود في الاتحاد السوفياتي. فلولا هذا لكان بوسع الشيوعية أن تحظى بفرصة أفضل في استمالة مزيد من الأميركيين.
في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين، عثرت أشكال أخرى من «الجماعية»، مثل الفاشية الإيطالية، والنازية الألمانية، على معجبين في الولايات المتحدة، غير أنها لم تكتسب قاعدة شعبية.
في السياسة، اتخذت الولايات المتحدة منعطفاً حاداً نحو «الجماعية» في عهد الرئيس ليندون جونسون، مع سمات مثل التمييز الإيجابي، و«الجماعانية»، والنسوية، والهذيان المبكر للنزعة البيئية.
بالمضي قدماً وسريعاً، فإن خطاب الرئيس جون كينيدي «لا تسأل»، الذي ربما استلهمه من «الكتاب الأحمر الصغير» لماو تسي تونغ، صنّف الفرد على أنه الشخص الذي يجب عليه أن يفعل شيئاً للدولة بدلاً من التساؤل عما تفعل الدولة لأجله.
كان شعار انتخاب بيل كلينتون «إنه الاقتصاد أيها الغبي!» بمثابة إعادة صياغة على اعتقاد ماركس بأن الاقتصاد يوفر البنية التحتية للمجتمع مع السياسة، بصفتها البنية الفوقية.
في سيرته الذاتية المؤلفة من 780 صفحة، يسخر باراك أوباما من النقاد الذين يزعمون أنه قد يكون «اشتراكياً خفياً». ثم يكشف عن تعلقه «بالجماعية»، ويثني على «الروح الجماعية، وهو الشيء الذي نتمناه جميعاً، والشعور بالتواصل الذي يتغلب على خلافاتنا». كما عملت هيلاري كلينتون أيضاً على بناء رسالتها الرئاسية على الشعار الجماعي: «إن تربية الطفل تتطلب مشاركة جميع أفراد القرية».
على مر العقود، فقدت عبادة الأميركيين التقليدية للفرد بصفته بطلاً، كثيراً من هالتها، إذ استُبدلت بها عبادة جديدة للضحية التي تستحق الاعتذار والتعويض.
سواء شاء ترمب أم أبى، فإن المجازات «الجماعية» تضرب الآن بجذورها العميقة في السياسة الأميركية، حيث الدوائر الانتخابية الضخمة، لا سيما بين الأقليات العرقية والملايين من المهاجرين الجُدد الذين يأتي أغلبهم مما يُسمى «العالم الثالث»؛ حيث الدولة هي المعبود العلماني الذي يقرر كل شيء.
عن الشرق الأوسط