آخر ما صرّحت/اعترفت به المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، في شرحها وتوضيحها لأسباب ودوافع حملتها العسكرية الكبيرة الحالية على مخيمات ومدن وقرى شمال الضفة الغربية والأغوار، من مخيم جنين والمدينة، وطولكرم والمخيمات المحيطة، ونابلس ومخيم بلاطة، وحتى طوباس ومخيم الفارعة، هو، كما نقلته إذاعة الجيش الإسرائيلي صباح أمس الأربعاء، عن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وبالنص الحرفي: «لم تحقق الحملات السابقة نتيجة، فقررنا أن نفعل شيئاً يغيّر الواقع».
هذا التصريح العلني، الدموي، المقتضب، يلخّص بـ11 كلمة كل حكاية الجريمة الصهيونية المتواصلة منذ إنشاء الحركة العنصرية في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، مروراً بوعد بلفور 1917، والإنتداب البريطاني الذي اشترطت «عصبة الأمم» للموافقة عليه، تعهّد بريطانيا بتنفيذ ذلك الوعد، ووصولاً الى كل المعارك المتواصلة منذ اكثر من قرن من الزمن، على شعب فلسطين، وأرض فلسطين، ومياه وسماء فلسطين.
يتشكّل هذا الاعتراف الإسرائيلي من جملتين: تتحدث الأولى عن الماضي، وتقول: «لم تحقق الحملات السابقة نتيجة». وتتحدث الجملة الثانية عن المستقبل فتقول: «قررنا أن نفعل شيئاً يغيّر الواقع».
كل واحدة من الجملتين جديرة بالتوقف عندها، والتأنّي والتدقيق في ما تعنيه مباشرة، وفي ما توحي به، وما تشير إليه، والأهم من ذلك: كيفية التصرّف الذي يجدر بنا اعتماده حول كل ذلك، والاستفادة منه.
واضح من الجملة الأولى أنها اعتراف صريح من «المؤسسة الأمنية الإسرائيلية» أن «الحملات السابقة» لم تحقق الهدف الذي تم من أجله شن تلك «الحملات». هذا اعتراف جيد. لكن هل هو صحيح؟ وهل هو صادق؟ وهل كان لكل تلك «الحملات» هدف واحد فقط؟
جوابي على هذه الأسئلة والتساؤلات هو أن لـ«الحملات» العسكرية الدموية الإسرائيلية أهداف عديدة، وهدف نهائي. من اهدافها العديدة: قتل أكبر عدد من الفلسطينيين؛ جرح وإعاقة أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين؛ اعتقال وأسر شبابهم وصباياهم وفتيانهم؛ تدمير البنية التحتية في مخيمات لجوئهم، وفي مدنهم وقراهم ومضاربهم؛ إرهاب الآمنين منهم من أطفال ونساء وشيوخ، وتنكيد حياتهم.
كل هذه الأهداف الإجرامية للحملات المتواصلة، والمسعورة بشكل خاص منذ زلزال السابع من اكتوبر،(الذي انطلق من غزة) تم تحقيقها في كافة انحاء الضفة الغربية والقدس الشرقية: تم قتل المئات، وجرح والتسبب بإعاقة مئات اخرى، واعتقال وتعذيب الآلاف، وتدمير غير مسبوق حتى للشوارع والأرصفة.
لكن الهدف النهائي لحملات جيش الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي، وهجمات عصابات قطعان المستوطنين، هدف تيئيس الفلسطينيين في الضفة الغربية، ودفعهم للهجرة واللجوء، وإجبارهم على رفع راية الإستسلام لم يتحقق.
لا أجد غضاضة في تكرار ما قلته مرات ومرات: «لم ولا ولن». لم يستسلم الفلسطينيون رغم قرن مليء بالمعاناة والتقتيل والتآمر. لا يستسلم الفلسطينيون هذه الأيام. لن يستسلم الفلسطينيون في أي يوم من أيام المستقبل.
ثم، الى الجملة الثانية في تصريح «المؤسسة الأمنية الإسرائيلية» التي تقول: «قررنا أن نفعل شيئاً يغيّر الواقع». فماذا يعني ذلك؟ وإلى ماذا يشير ويوحي؟
إنه تهديد بتصعيد عسكري، دموي، إرهابي، غير مسبوق في الضفة الغربية والقدس الشرقية. قد يكون مجرمو القيادات السياسية والقيادات العسكرية الإسرائيلية يخططون لشن حملات عسكرية ضد مخيمات ومدن وقرى الضفة الغربية، شبيهة بما أقدموا عليه في قطاع غزة، رغم أن لا أنفاق ولا قدرات عسكرية للفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية، كما هو الحال في قطاع غزة الذي تعرض ويتعرض على مدى الأشهر العشرة الماضية لجرائم لم يشهد العالم لمثلها منذ الحرب العالمية الثانية. منذ جرائم ألمانيا النازية، وخاصة تلك الجرائم التي كان المدنيون اليهود في أوروبا ضحاياها. وها نحن نرى أن أبناء وأحفاد هؤلاء الضحايا يقلّدون جزّاريهم في تعاملهم مع آبائهم وأجدادهم. وحتى ألمانيا اليوم هي ألمانيا الحرب العالمية الثانية. كانت ألمانيا نازية، وهي اليوم، (ومنذ عام النكبة) ألمانيا النازية ذاتها. كان ضحاياها اليهود، وأما ضحايا سياستها اليوم فهُم الفلسطينيون. شعبنا الفلسطيني اليوم هو ضحية النازية الألمانية والنازية الصهيونية. وأكرر: كان ضحايا المانيا النازية، في القرن العشرين، يهود أوروبا، أما ضحايا النازية الصهيونية والنازية الألمانية، في القرن الحادي والعشرين فهم العرب الفلسطينيون، ويليهم، في مقبل الأيام، جميع شعوب الأمة العربية.
لم تنجح النازية الألمانية في إبادة اليهود، لا الأقليات اليهودية في أوروبا، ولا بقية الأقليات اليهودية في العالم. فاستعاضت عن ذلك، بدعم ومباركة دول وقوى وعملاء وتابعين تشملها قائمة لها بداية، وتكاد أن تكون بلا نهاية، وتم الدعم من جميع هؤلاء لتمكين بن غوريون من إعلان «إقامة دولة إسرائيل» والتي تضمنت، بالبديهة وبالطبع، إعلان «نكبة الشعب الفلسطيني».
يبقى السؤال الأهم: ما العمل؟
في اعتقادي أن ما يمكننا، ويتوجب علينا العمل عليه، (1) الاعتماد على أنفسنا، و(2) محاولة الاعتماد على حلفائنا من دول وشعوب العالم:
1ـ اعتماد شعار «لم ولا ولن». لم نستسلم في الماضي رغم كل الظلم والتضحيات؛ لا نستسلم في الحاضر رغم كل الظلم والتضحيات، لن نستسلم في المستقبل مهما كان حجم الظلم والتضحيات.
2ـ التعاون مع حلفائنا من دول وشعوب العالم بالتوجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، لإعادة اعتماد قرارها رقم 3379، الصادر يوم 10.11.1975، والذي نصّ على «أن الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري» وهو القرار الذي قام مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة في حينه، حاييم هيرتسوغ، بحركة بهلوانية بتمزيق نسخة منه أثناء كلمته من على منصة الجمعية العامة، وتولّى بعدها منصب «رئيس دولة إسرائيل» ويتولى ابنه اسحق هيرتسوغ هذه الأيام منصب «رئيس دولة إسرائيل». ثم تم إلغاء ذلك القرار بقرار رقم 4686 يوم 16.12.1991
هذه نقطة انطلاق فقط… لها الكثير الكثير من الخطوات العملية على أرض الواقع، وعلى صعيدي العمل النضالي السياسي.