إسرائيل لا تحتاج إلى ذرائع وإنما إلى فرص...

 

 

 

بعد مقولة إن "إسرائيل لم تحقق أهدافها بعد"، ومقولة "ليس لدى الفلسطينيين ما يخسرونه"، ثمة مقولة أخرى تروّج في مناخات الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، مفادها أن "إسرائيل لا تحتاج إلى ذرائع للاعتداء على الفلسطينيين والبطش بهم"، بكل وسائل القتل والتدمير والاقتلاع التي تمتلكها.

المقولة الأولى خاطئة، بالنظر لما حققته إسرائيل في حرب الإبادة الجماعية التي تشنها، منذ 11 شهرا ضد فلسطينيي غزة، علما أن بنيامين نتنياهو يروج تلك المقولة لتبرير استمرار الحرب، إذ إن هدفه الحقيقي، كما تبيّن السياسة التي تنتهجها قواته على الأرض، ترويع الفلسطينيين، من النهر إلى البحر، بمثال غزة، وتكريس الهيمنة عليهم، ووأد حلمهم في دولة، مع محاولة فصل غزة نهائيا عن الجسم الفلسطيني، والتخفّف ما أمكن من الثقل الديموغرافي الذي يمثله الفلسطينيون فيها. أي إن هدف الحرب شطب الشعب الفلسطيني من الخريطة السياسية، بإعادتهم إلى زمن النكبة (1948)، في نكبة جديدة ربما أكثر هولا من الأولى.

أما المقولة الثانية، فتروج لوعي سياسي ساذج، وموالٍ، يطلب من الشعب التضحية من أجل التضحية، كأنها قيمة لذاتها، دون مساءلة القيادات عن خياراتهم السياسية والكفاحية، كأن المقاومة مطلوبة لذاتها، بغض النظر عن العوائد السلبية، أو العكسية، التي قد تتأتى منها. بيد أن تلك العبارة تتضمن، أيضا، الاستهانة بتضحيات البشر بأرواحهم وممتلكاتهم، واللامبالاة لآلامهم، بل واعتبار أن الفلسطيني الذي يخسر ولده أو أخاه أو أيا من أعضائه أو بيته، كأنه لم يخسر شيئا، فتلك روح عدمية لا علاقة لها بالصراعات السياسية الدنيوية.

هذا يبين أن القيادات الفلسطينية معنية بإدراك أن العملية الوطنية للشعب الفلسطيني، بظروفه الخاصة، وطبيعة عدوه، تفترض العمل في اتجاهين، الأول مقاومة إسرائيل وسياساتها، والثاني بناء المجتمع الفلسطيني في الداخل والخارج. إذ إن تغليب الوجه الأول وتجاهل الوجه الثاني لا يضيف شيئا ولا يراكم، بل يبدد تضحيات ومعاناة وبطولات الفلسطينيين. وهذا يفيد، أيضا، بأن مشكلة تلك القيادات، أنها في خياراتها تعتمد على روح العناد والتضحية في شعبها، أكثر مما تعتمد على إمكانياته وقدرته على التحمل، وأنها لا تأخذ في إدراكاتها توفر معطيات عربية ودولية مناسبة، تمكنها من استثمار هذا الخيار أو ذاك.

فيما يخص المقولة الثالثة بأن "إسرائيل لا تحتاج إلى ذرائع لقتل فلسطينيين أو اعتقالهم أو مصادرة حقوقهم الفردية والجمعية، المدنية والوطنية"، وهي بيت القصيد هنا، فهي تكشف بالضد عن أي محاولة لمساءلة أو نقد القيادات المعنية فيما يتصل بصوابية خياراتهم، لاسيما أن طبيعة إسرائيل وسياساتها إزاء الفلسطينيين تؤيد تلك المقولة، بكونها دولة مصطنعة واستعمارية واستيطانية وعنصرية ودينية. ثم إنها تعتبر نفسها دولة لليهود، وأن أمن هؤلاء ودولتهم فوق أي شيء. إذ إن حياة عشرات من الإسرائيليين، المحتجزين في غزة، أهم من مليوني فلسطينيي فيها. وبحسب الوزير المتطرف إيتمار بن غفير، فإن "حق عائلته بالحركة في الضفة يفوق حق الفلسطينيين". أما الوزير المتطرف بتسلئيل سموتريتش فدعا لمحو حواره (قرب نابلس)، وأكثر منه وزير التراث عميحاي إلياهو الذي دعا إلى "إلقاء قنبلة نووية على غزة".
وعليه، فإذا كان يصحّ القول إن إسرائيل لا تحتاج ذرائع للاستعمار والاستيطان والقتل والاعتقال وتدمير البيوت، فإن ذلك لا يفسر خيار حرب الإبادة الجماعية، التي خرقت كل الإدراكات المسبقة عن أن إسرائيل لا تخوض حربا طويلة، وأنها غير مستعدة لخسائر بشرية كبيرة، وأنها حريصة على صورتها كضحية إبادة "الهولوكوست"، لكن ذلك يبيّن حاجتها الماسّة إلى فرصة سانحة، لشنّ مثل تلك الحرب لإنفاذ سياساتها، وللتخلص ما أمكن من الفلسطينيين باعتبارهم عندها بمثابة خطر يتهددها دائما، وهو ما توفر في "طوفان الأقصى"، الذي استمر يوما واحدا، في حين شنّت إسرائيل حرب إبادة غير مسبوقة دخلت الآن يومها الـ330.
الآن، إذا كانت إسرائيل لا تحتاج ذرائع، وإذا كانت عملية "حماس" ليست سبب تلك الحرب، فإن تلك العملية بالشكل الذي تمت به وفّرت الفرصة لإسرائيل لعرض نفسها أمام العالم كمن يتعرض لهجوم يستهدف وجودها ولاستعادة الإجماع الداخلي فيها. وساعدها في ذلك تجمع الحكومات الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة لإنقاذها ودعمها، سياسيا وعسكريا وماليا، فتلك هي الظروف المثالية للفرصة التي سمحت لنتنياهو واليمين القومي والديني بالمضي في حربه.

إذن، الفرصة السانحة تختلف عن الذريعة. وللمقارنة بالمثل، فهل كان للولايات المتحدة أن تضرب اليابان بقنبلتين نوويتين لولا قصف اليابان لميناء بيرل هاربر، إبان الحرب العالمية الثانية؟ وهل كان لجيوش روسيا والحلفاء أن تدمر مدنا ألمانية وأن تدخل معا برلين، لولا ما فعلته ألمانيا النازية في أوروبا؟ وهل كان يمكن أن يحصل ما حصل في العراق لولا احتلال الكويت، ولولا الهجوم الإرهابي في نيويورك وواشنطن (11/9/2001)؟ ثم هل كان لإسرائيل أن تدخل لبنان وتحاصر بيروت لولا قصف الصواريخ الفلسطينية شمالي فلسطين/إسرائيل (يوليو/تموز1981)؟ وهل كان لها أن تعيد احتلال الضفة، وتبني الجدار الفاصل، وتقطع أوصال الضفة بالجسور والأنفاق والطرق الالتفافية، لولا العمليات التفجيرية إبان الانتفاضة الثانية؟ 
القصد هنا أن طبيعة طرف ما، لا تملي وحدها طريقة ردة فعله، إذ يحتاج، مع طبيعته، إلى فرصة سانحة، وتوافر ظروف معينة مساعدة.
وبالنسبة لي، فإن أكثر ما كنت أخشاه وأحذر منه، منذ عشرة أعوام، أن تنتهز إسرائيل فرصة عمل فلسطيني ما فوق التوقعات، وتقوم بردة فعل يتيح لها تهجير جزء من شعبنا، معتبرا بما جرى في سوريا، في العقد الماضي (وما حصل من بعدها في أوكرانيا والسودان).
في الغضون يفترض إمعان التفكير والمقارنة بين حالتين، ففي الصراع على حي "الشيخ جراح" في القدس (2021)، مثلا، تداعى الفلسطينيون كلهم، من النهر إلى البحر، إلى هبّة شعبية عارمة، في حين لم تحصل مثل تلك الاستجابة إزاء الهول الذي تعرض له فلسطينيو غزة، وتفسير ذلك، أولا، أن الفلسطينيين في الضفة والقدس و"48"، بوعيهم العميق، يدركون مخاطر أن تتوفر فرصة لإسرائيل تؤدي إلى زعزعة وجودهم في أرضهم، في هذه الظروف والمعطيات، غير المواتية لهم. ثانيا، أن الخيار الذي أخذت له غزة عبر "حماس"، ليس خيارا شعبيا يمكن تحمل تبعاته الخطيرة، ما يعني أن شكلا نضاليا بمستوى أقل وإجماع أكبر، أفضل من شكل كفاحي يراه البعض أعلى لكن لا تتوفر إمكانياته ولا إجماعات عليه.

 

 

 

 

Loading...