أكبر عملية احتيال في الحرب الحالية في قطاع غزة هي الادعاء بأن إسرائيل لا تستطيع المضيّ في صفقة لتحرير المخطوفين بسبب الضرورة الأمنية لوجودها في محور فيلادلفيا. «فيلادلفيا يحدد مستقبلنا»، قال نتنياهو في خطابه إلى الأمة الذي قُدم كمؤتمر صحافي.
ليس مهماً أنه حتى أيار لم تولِ الحكومة الإسرائيلية ورئيسها محور فيلادلفيا أهمية كبرى في الحرب. وطوال 8 أشهر لم يُقدم نتنياهو على احتلال المحور. وليس مهماً أن نتنياهو نفسه كان، طوال أسابيع، هو الذي يعرقل دخول القوات الإسرائيلية إلى رفح. وليس مهماً البتة أن المنظومة الأمنية في إسرائيل لم تنجح في إيجاد حل لمشكلات التهريب في محور فيلادلفيا، إلى حين طرح الحل الذي جرى الاتفاق عليه بين الولايات المتحدة ومصر، والذي لم يوافق عليه نتنياهو، لأن معنى هذا الأمر إزالة العقبة الأخيرة من طريق التوصل إلى صفقة.
لا خلاف على أن المشكلة الأمنية في محور فيلادلفيا لا تتعلق بالواقع فوق الأرض. المشكلة لها علاقة بما هو تحت الأرض. ومعنى ذلك، وجود مادي لفِرق وألوية وفصائل في المحور لا يقدم رداً على حفر نفق بعمق 70 متراً تحت الأرض، من أيّ حيّ من الأحياء الداخلية في رفح. وحدها حلول ما تحت الأرض، مثل أجهزة استشعار، وجدار حديدي، وقنوات مياه، يمكنها تلبية الحاجة الأمنية الحالية إلى وقف التهريب إلى القطاع. والظاهر أنه يوجد مثل هذا الحل، وهو يتضمن إقامة غرفة عمليات ترسل إنذاراً في الوقت الحقيقي لدى حفر نفق في المنطقة، وهو ما يتيح العمل ضد الأنفاق، ويصبح في إمكان الإسرائيليين وقفه. هذه الصيغة حصلت على مباركة كل الأطراف، إلى أن وصلت إلى نتنياهو الذي رفضها؛ لأنه لا يريد حلولاً تسمح - لا سمح الله - بتقدّم المفاوضات بشأن تحرير المخطوفين.
يدّعي نتنياهو أنه إذا انسحبنا، اليوم، من المحور فلن نستطيع العودة إليه. لكنه يعلم أيضاً بأنه لو شاء لأمكنه التوجه إلى الرئيس الأميركي، جو بايدن، والحصول منه على ضمانات فيما يتعلق بخرق وقف إطلاق النار، في إمكان الجيش الإسرائيلي العودة إلى المحور، بموافقة أيّ إدارة أميركية ستكون في واشنطن.
في الأمس، قرر البيت الأبيض وضع حد لتلاعُب نتنياهو الإعلامي، وأوضح أنه ورَد في المقترح الأميركي، الذي وافقت عليه إسرائيل في أيار، بوضوح، أن على إسرائيل الانسحاب من المحور. يحاول مساعدو نتنياهو الادعاء أنه لا يمكن العودة إلى السيطرة على محور فيلادلفيا، عسكرياً، إذا انسحبنا منه بسبب الخطر الكبير. لكن هذه الحجة لا أساس لها من الصحة، وتنطوي على خديعة. بإمكان الجيش العودة إلى السيطرة على فيلادلفيا، وسيواجه مقاومة ضئيلة نسبياً، لأن «حماس»، الموجودة حالياً في المنطقة، لا تشكل عدواً حقيقياً في مواجهة الجيش الإسرائيلي.
لكن الأهم من ذلك هو أن نتنياهو نفسه أصرّ على أن يكون اتفاق وقف إطلاق النار مؤقتاً فقط، وأن في إمكان الجيش العودة في نهاية المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار (6 أسابيع) إلى القتال في غزة. وهذه المدة القصيرة لا تكفي لحفر أيّ نفق، ولا يمكن خلال هذه الفترة القصيرة من الزمن تهريب صواريخ من أنفاق رفح. نتنياهو الذي أصرّ على إمكان تجدُّد القتال، لسبب ما، يتعامل مع وقف إطلاق النار على أنه دائم، وليس موقتاً، حسبما طالب هو نفسه به.
وهنا تظهر الخديعة. يتبنى مؤيدوه السردية الجديدة التي قدمها من دون أن يتساءلوا لماذا لم يتحرك في فيلادلفيا طوال 14 عاماً من حُكمه، وإذا استيقظ الآن فقط، لماذا أصبحت الأسابيع الستة مهمة إلى درجة تفرض التخلي عن حياة 101 من المخطوفين؟
يجب قول كلمة أُخرى عن فيلادلفيا. عموماً، جرت عمليات التهريب، في أغلبيتها، في السنوات الأخيرة في المعابر الحدودية، معبر رفح مع مصر، ومعبر كرم أبو سالم مع إسرائيل. لقد سمحت دولة إسرائيل خلال حُكم نتنياهو بدخول مواد مزدوجة الاستخدام عن طريق معبر كرم أبو سالم، وبذلك ساعدت في حفر الأنفاق في رفح، وفي أماكن أُخرى، وفي إنتاج وسائل قتالية متقدمة.
جرت أعمال التهريب الأُخرى، عبر معبر رفح، من مصر إلى غزة، وليس عبر محور فيلادلفيا. صحيح أن المحور كان في الماضي شريان حركة كبيرة بين غزة وسيناء، وسمح بتهريب سيارات هامر وBMW، وأشخاص وغيرها، لكن في السنوات الأخيرة، انخفض حجم التهريب، عبر الأنفاق، جرّاء إغلاق السلطات المصرية بعض هذه الأنفاق وتفجيرها. هذا لا يعني أن المعبر توقّف عن العمل تحت الأرض، لكنه ظل يعمل بوتيرة مختلفة. في نهاية الأمر، يحوّل نتنياهو النقاش العام نحو قضية فيلادلفيا، بينما هو يعلم بأن القضية العصية على الحل هي إطلاق سراح «مخربين» فلسطينيين، وهو ما سيؤدي إلى سقوط حكومته.
عن «يديعوت»