ماكرون وتحديات التحالفات السياسية.. بين اليمين واليسار في فرنسا

 

 

 

في أعقاب الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في فرنسا، والتي شهدت صعوداً لافتاً لليسار، يجد الرئيس الفرنسي ماكرون نفسه أمام تحدٍ سياسي معقد. حيث فقد حزبه "حركة الجمهورية إلى الأمام" الأغلبية المطلقة في البرلمان، ما أجبره على البحث عن تحالفات جديدة لضمان تمرير سياساته الإصلاحية "النيوليبرالية". ولتحقيق هذا الهدف، يسعى ماكرون إلى تعيين رئيس وزراء من المحافظين أو اليمين الوسط، وهي خطوة قد تبدو متناقضة مع نتائج الانتخابات الأخيرة.

الوضع السياسي الراهن في فرنسا

الانتخابات البرلمانية التي جرت مؤخراً أسفرت عن تقدم كبير لتحالف اليسار بقيادة جان لوك ميلانشون، الذي نجح في توحيد القوى اليسارية المتمثلة بأربعة أحزاب سياسية تحت مظلة واحدة "الجبهة الشعبية الجديدة" من جهة أخرى، شهد اليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان وبارديلا، زيادة في عدد المقاعد التي حصل عليها "التجمع الوطني" في البرلمان، مما يعكس تغيراً كبيراً في المشهد السياسي الفرنسي. هذا التنوع في المشهد يجعل تشكيل الحكومة أمراً معقداً، حيث لا يستطيع ماكرون الاعتماد على حزب واحد فقط لتحقيق الاستقرار، وبذلك فقد قرر تعيين اليميني ميشيل بارنييه، وهو وزير سابق بالحكومات الفرنسية.

ورغم أن الانتخابات كانت تشير بوضوح إلى دعم متزايد لليسار وحقهم النظري الانتخابي في تولي مرشحهم موقع رئاسة الوزراء، إلا أن ماكرون اختار التوجه نحو اليمين الوسط لاختيار رئيس للوزراء وفق ما يعطيه الدستور الفرنسي من حق الاختيار بغض النظر عن نتيجة الانتخابات.

يسعى ماكرون من خلال هذه الخطوة إلى تجنب المأزق السياسي ومحاولة توسيع قاعدته البرلمانية من خلال عقد تحالفات مع القوى المحافظة من اليمين. ولكن هذه الاستراتيجية أثارت جدلاً واسعاً في فرنسا، خاصة بين قوى اليسار التي ترى أن هذا الاختيار لا يعكس إرادة الناخبين وستقود إلى عدم الاستقرار.

رد فعل اليسار الفرنسي

اليسار الفرنسي، بقيادة ميلانشون، انتقد بشدة هذا التوجه. حيث يرى أن ماكرون يسعى إلى تجاوز نتائج الانتخابات وعدم احترام إرادة الشعب التي عبرت بوضوح عن رغبتها في تغيير النهج السياسي ومصادرة النتائج. ميلانشون وصف ماكرون بأنه يحاول فرض "أجندة نيوليبرالية" تخدم الطبقات الغنية على حساب الطبقات العاملة والمتوسطة. هذا الانتقاد يعكس شعوراً متزايداً في الشارع الفرنسي بأن الحكومة الحالية لا تمثل تطلعات الغالبية.

اليسار أيضاً يخشى أن يؤدي تحالف ماكرون مع اليمين الوسط بدعم من اليمين المتطرف إلى تهميش القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي تتصدر أولوياته، مثل تحسين مستوى المعيشة، تقليص الفجوات الاقتصادية، وتحقيق العدالة الاجتماعية. كما يخشى اليسار من أن يؤدي هذا التحالف إلى تصاعد تأثير اليمين المتطرف، خاصة إذا اعتمد ماكرون على دعمهم في بعض القضايا.

تصاعد نفوذ اليمين المتطرف

من ناحية أخرى، فإن تزايد نفوذ اليمين المتطرف في فرنسا، بقيادة مارين لوبان وبارديلا، يطرح تساؤلات حول مدى تأثير هذا التيار على السياسة الفرنسية. لوبان وبارديلا، الذين تمكن حزبهم التجمع الوطني اليميني من تعزيز موقعه في الانتخابات، يمثل اليوم قوة لا يمكن تجاهلها. فنجاحهم في الحصول على دعم شعبي واسع يشير إلى تحول في المزاج السياسي الفرنسي، حيث يعبر جزء كبير من الناخبين عن استيائهم من الأحزاب التقليدية وتوجهاتها.

هذا الصعود المتزايد لليمين المتطرف والذي حصل على ثاني أعلى الأصوات بالانتخابات الفرنسية بعد حصول اليسار الموحد على أعلى الأصوات، يشكل ضغطاً على ماكرون، حيث بات مضطراً إلى اتخاذ مواقف تتلاءم مع مطالب هذه الفئة من الناخبين، أو على الأقل محاولة استيعاب جزءٍ من توجهاتهم. ومن هنا تأتي رغبته في تعيين رئيس وزراء من اليمين الوسط، على أمل تهدئة الأجواء السياسية وتجنب تصعيد أكبر مع هذا التيار المتطرف الشعبوي من جهة، وإلى مواجهة اليسار لمحاولة تقليص دوره بعد تمدد نفوذه من جهة أخرى.

التداعيات الداخلية والخارجية لتعين رئيس الوزراء

على الصعيد الداخلي، قد تؤدي خطوة ماكرون إلى تصاعد الاحتجاجات الشعبية التي غالباً ما تكون بدعم من قبل اليسار والحركات الاجتماعية والنقابات. اليسار الموحد الفرنسي يطالب بتبني سياسات اجتماعية واقتصادية أكثر عدالة، في حين أن اليمين المتطرف يسعى إلى تعزيز الهوية الوطنية وفرض سياسات أكثر تشدداً تجاه الهجرة والمهاجرين. هذه التناقضات تجعل من الصعب على ماكرون إرضاء الجميع، مما ينذر بفترة من عدم الاستقرار السياسي في أروقة البرلمان وانعكاس ذلك على الشارع.

محور مثلث واشنطن، بروكسل، تل أبيب

أما على الصعيد الأوروبي، فإن فرنسا، كإحدى القوى الكبرى في الاتحاد الأوروبي، تلعب دوراً محورياً في صياغة السياسات الأوروبية. أي تغيير في المشهد السياسي الفرنسي يمكن أن يؤثر على الاتحاد الأوروبي بشكل عام. تحالف ماكرون مع اليمين أو اليمين الوسط قد يدفع نحو سياساتٍ اقتصادية أكثر تحفظا على المستوى الأوروبي، خاصةً في ما يتعلق بالتكامل الأوروبي وقضايا الهجرة. وفي حال زاد تأثير اليمين المتطرف في فرنسا، قد نشهد تصاعدا للنزعات القومية في دول أوروبية أخرى إضافة إلى ما هو قائم اليوم ببعض دول الاتحاد في أوروبا الشرقية مثل التشيك، هنغاريا وغيرها من أوروبا الغربية كإيطاليا والنمسا، مما قد يهدد وحدة واستقرار الاتحاد الأوروبي.

ومن جهة أخرى فإن تصاعد هذا النمو والنفوذ لليمين في فرنسا وأوروبا بشكل عام، سيقود إلى سياسات ومواقف أكثر انحيازاً لسياسات دولة الاحتلال الإسرائيلي ولحكومة نتنياهو على وجه التحديد الذي تربطه بهذه الأحزاب من اليمين الشعبوي علاقات وطيدة، قد تنمو أكثر وتتوسع في حال فوز ترامب بالرئاسة الأمريكية حيث سيكتمل حينها مثلث واشنطن - بروكسل - تل أبيب في فرض سياسات "نيوليبرالية" متوحشة معادية للشعوب وحرياتها ومطالبها بالعدالة وإثارة بؤر حروب جديدة.

 

 

 

Loading...