رويداً رويداً تتضح أكثر ملامح المشروع الإسرائيلي والذي كانت نذره تطل منذ بداية الحرب لمن كان يتلّمس بهدوء مسارها والفرصة التي توفرت لإسرائيل ومعرفة أهدافها الإستراتيجية ووسائل تنفيذها في هذه اللحظة بالسلاح.
وهو ما يتطلب ما شهدناه من مناورات الصفقات خلال الأشهر الماضية، وهو ما كان مفهوماً ضمناً برفض أي هدنة تقطع الطريق على الهدف وبعيداً عن أحلام وسطحية التحليل المتفائل.
ليومين كان نتنياهو الذي بات يشعر بأن أرصدة المصدات تنفد أمام دوافع الصفقة يشرح للرأي العام الإسرائيلي محاولاً إقناع الجمهور بصوابية تصلبه معتمداً على قدراته الخاصة في الإقناع كخطيب مفوه كما هو معروف عنه، لكنه خلال الشروحات والخرائط سقط منه الكثير من تفسيرات تكشف تماماً الأهداف الكبرى.
اعتادت الحركة الصهيونية وإسرائيل تحويل كل محنة إلى منحة ونجحتا في ذلك، فمحنة الاضطهاد الذي تعرض له اليهود في أوروبا خلال القرن قبل الماضي تحولت إلى حركة صهيونية ووعد بلفور من الإمبراطورية العظمى قبل أن تغيب شمسها وبدايات الاستيطان العبري، أما محنة المحرقة النازية فقد أفضت لإقامة دولة إسرائيل ورعايتها، وما بدا قبل أكثر من عقد بحركة ما أطلق عليه الربيع العربي وخشية إسرائيل من نهضة الشعوب في البدايات نجحت في تحويله إلى صراع مذهبي وتحالف سني شيعي، حيث كانت تحرض السنة وتستقطبهم ليكونوا جزءا من هذا التحالف كما تكشف وثائق مؤتمر هرتسيليا الثالث عشر الذي انعقد في العام 2013.
شكل السابع من أكتوبر واحدة من المحطات المهمة في تاريخ إسرائيل كانت المحنة تتضح من خلال الصدمة التي تلقاها الإسرائيليون بدولتهم كوطن آمن لليهود حسب خطة المنظر ثيودور هرتسل.
وللحظة ظهر غير ذلك ولكن العقل المؤسسي الإسرائيلي المسلح ليس فقط بالقوة العسكرية بل بدبابات التفكير ومراكز الدراسات كان لا بد أن يلتقطها للاتكاء عليها لتنفيذ مشاريع كبرى لم تكن تتوفر لها تلك المناخات سابقاً، فالسياسة لا تسير في الفراغ ومهما بلغت القوة المسلحة فهي تحتاج إلى معامل تاريخية تتفاعل فيها الحركة وظروف ودرجة حرارة وتظن إسرائيل أنها صنعتها أو توفرت لها بفعل الاندفاع الفلسطيني غير المحسوب.
ما تسعى له إسرائيل هو إنهاء الصراع مع الفلسطينيين وحسمه، لقد توفرت الرغبة والإمكانيات. فالرغبة محمولة على حكومة حزب الليكود والصهيونية الدينية صاحبة فكرة الحسم، وتوفرت الرغبة قبل أربعة أعوام حين قدم نتنياهو نواياه ليحملها ترامب في صفقة القرن، أما الإمكانيات فهي مهولة تبدأ من الكرياه في تل أبيب ومطاراتها وتنتهي بحاملات الطائرات الأميركية ومصانع أسلحتها ومعها كل مصانع الغرب.
لكن الإمكانيات والرغبة وحدهما لا تصنعان السياسة بل رغم فائضهما في إسرائيل تحتاجان إلى المناخات كي تحققا النتائج المطلوبة وقد توفرت، هكذا تتصرف وهذا يتضح من خرائط نتنياهو بشطب الضفة الغربية منها ومعازل غزة ومحور فيلادلفيا.
حاولنا وصديقي الخبير فعلاً في الشأن الإسرائيلي منذ بداية الحرب أن نعرف سبب تسمية إسرائيل للمحور بهذا الاسم فلم نعثر على تفسير، المحور الذي بات يشكل المبرر الجديد لنتنياهو وحكومته لمناورة أخرى من مناورات الهدنة مستعيناً بالمواد المساعدة كما معلم المدرسة الابتدائية وصور أنفاق تقف على بواباتها عربات لم يتم التحقق لدى خبراء الصور من حقيقتها، لكن في إطار البروباغاندا القائمة في وسائل الإعلام بما فيها العربية كل شيء يتم تمريره.
تمكن نتنياهو من تقديم حججه وبالأصل هو يقوم بجريمة الاحتلال المنصوص بتجريمها في القانون الدولي ولكن السياق المقلوب للأشياء يجعلنا نناقش التفاصيل المقلوبة، قد يتمكن نتنياهو من إقناع الأميركيين الجاهزين لتلقف كل شيء من مبرراته في فيلادلفيا لنصبح عالقين بتحمُّل الفلسطيني مسؤولية إهدار الفرصة وهو سيناريو وارد في ظل التجربة فما الحل إذاً ؟
الحل في العودة لأصل الأشياء لقطع الطريق على المبررات الإسرائيلية وقد لا تنجح، لكن على الفلسطينيين وحركة حماس أن تتوقف أمامها.
والأصل أن السلطة الفلسطينية صاحبة الولاية القانونية على قطاع غزة وهو ما عمل نتنياهو المعارض لأوسلو بشدة على شطبه ما يفرض على الفلسطينيين التمسك بتلك النقطة القانونية، وهنا يتعلق الأمر بحركة حماس التي صادرت القطاع من السلطة كي تعلن مبادرة الحل الوسط بقبولها بسيطرة السلطة ومعها البعثة الأوروبية على معبر رفح وكذلك تتولى السلطة السيطرة على محور فيلادلفيا.
هذه الخطوة التي ليس بالضرورة أن يقبلها نتنياهو لأنها تسهل للصفقة وتقطع الطريق على استمرار الحرب لكنها ضرورة لوضع نتنياهو في موقف الرافض لإنهاء الحرب، أن تعلن حركة حماس أنها لا تتمسك بمحور فيلادلفيا ينزع كل حجج إسرائيل بالتهريب وتظهر الحركة أنها لن تتمسك بالمحور ولن تعود إليه، وبهذه الخطوة تكون حماس قد قدمت تنازلاً أمام الوسطاء ما يحشر نتنياهو.
وإذا لم يكن من الممكن وقف الحرب بعد أن انتهت حلول الأرض فلتناور حماس كما تناور إسرائيل بدل أن تظهر بمظهر المتصلب.
والأساس في الموضوع أن عودة السلطة لمعبر رفح هو الشيء الطبيعي ودون ذلك هو غير الطبيعي سواء حركة حماس أو إسرائيل مع الفارق طبعاً.