مدلولات خاصة للحملة الإسرائيلية على الضفة

 

 

 

ما يجري الآن في الضفة تحديداً، هو حملة من ضمن عشرات الحملات المماثلة، التي قام بها الجيش الإسرائيلي ليس لدوافع أمنية كما دأب على تعريف أعماله، وإنما لتقويض الإمكانيات الذاتية والموضوعية التي تقوم الدولة الفلسطينية عليها.

غير أن للحملة الراهنة مدلولات خاصة يفصح عنها اليمين الإسرائيلي، الذي انتقل من وضع المُطالب بسياسات محددة إزاء الضفة، إلى وضعٍ متقدمٍ في صنع السياسات وتنفيذها، وذلك من خلال المكانة التي احتلها غلاة اليمين المتشدد، في بنية الحكومة الإسرائيلية وبرامجها وقراراتها. فهذا اليمين المتشدد، يتحكم بمفاصل أساسية من مفاصل الدولة الاسرائيلية العميقة فهو المسؤول عن وزارة المالية، التي هي الوزارة الأهم في إسرائيل، والمشارك كذلك رسمياً وفعلياً في وزارة الدفاع والمرجع الأول والأخير في سياسات الاستيطان، إضافة إلى وزارة الأمن الداخلي ذات الصلاحيات الواسعة في كل ما يتصل بالفلسطينيين وخاصة في القدس.

وحين يتحكم غلاة اليمين وسدنة الاستيطان بالحكومة وقراراتها، فإن ما يجري الآن على الضفة ينبغي أن يُنظر إليه بجدية أكثر بكثير مما كان في السابق، فإذا كان التهجير القسري متعذراً فما يزال في قلب الأجندة الإسرائيلية وعلى رأس أهداف الدولة العميقة، فاليمين المتحكم بالقرارات والسياسات لا يخفي تطلعه لرؤية الضفة خالية من أهلها، أو قليلة الكثافة أي قليلة القدرة على المواجهة.

الحملة الراهنة على الضفة، تتزامن مع الحرب التدميرية المتواصلة على غزة، والحرب السياسية "الاستراتيجية" التي أعلنها الكنيست برفض قيام دولة فلسطينية، تشير إلى أن ما يجري هو حرب شاملة مكتملة العناصر والأدوات والأهداف، وفي الحالة الفلسطينية فإن الضفة التي هي أرض الدولة الفلسطينية ستكون مركز الجهد الإسرائيلي الحالي والقادم، حتى لو لم تضع الحرب على غزة أوزارها.

مدلولٌ آخر يتصل بالتطورات التي نتجت عن حرب غزة، لقد راقبت إسرائيل مسار الحملة الدولية الشاملة التي دعت إلى قيام الدولة الفلسطينية ووصلت في بعض تجلياتها حد الاعتراف المسبق بها وخاصة من قبل بعض الدول الأوروبية، ذلك أشعل ضوءً أحمر في دوائر صنع القرار في إسرائيل، ما أدّى عملياً إلى التسريع في حملة الضفة حيث العنوان الأمني المتداول هو لمجرد التصدير الخارجي، أمّا الهدف الحقيقي فهو تفتيت البنية التحتية للدولة الفلسطينية العتيدة.

مدلولٌ آخر يوضع في الحساب... في إسرائيل تتحدد الخطوات تجاه الفلسطينيين وفق الروزنامة الأمريكية واهتماماتها وانشغالاتها، وليس أفضل من هذا الوقت لتفعل إسرائيل فعلها ضد الفلسطينيين، بينما الإدارة الأمريكية التي تدعي بعض توازن تجاه مصالحهم لا تملك إلا أن تتغاضى عن أي فعل إسرائيلي، حتى لو تجاوز الخطوط الحمر التي كانت ترسمها أمريكا ولو لمجرد ذر الرماد في العيون.

هذه بعض المدلولات الخاصة للحملة العسكرية والواسعة على الضفة، غير أن كل ما تقدم وإن كان خطراً بالفعل ويستحق القلق منه، إلا أنه بالمقابل يصطدم بواقع الضفة أهلها وقوة تمسكهم بالحياة فيها وعدم الهجرة منها والصمود أمام التحالف العسكري والاستيطاني بكل الوسائل المشروعة والمتاحة، فما حرمه الفلسطينيون على أنفسهم يجسد قوة جدية تحسب إسرائيل حسابها وتتخوف منها، لقد حرموا على أنفسهم مغادرة الوطن مهما بلغت الشراسة الإسرائيلية، وحرّموا على أنفسهم رفع راية بيضاء حتى لو احتشد الجيش الاسرائيلي كله وقطعان مستوطنيه أمام بيوتهم وعلى طرقاتهم.

إنهم يفعلون ذلك منذ اليوم الأول من العالم 67، وما تخافه إسرائيل حقاً هو ما تسميه بالذئاب المنفردة، التي لا يُعرف متى تثور ومتى تهدأ.

وما تخافه إسرائيل أكثر أنها تشتبك مع الملايين الفلسطينية على كل جغرافية الوطن وليست مع بؤر متناثرة هنا وهناك، فمعركة البقاء والوجود الفلسطيني ليست معركة عسكرية بقدر ما هي معركة شاملة، وهذا ما جعل حرب إسرائيل في الضفة هي الأصعب فعلى مدى سبع وخمسين سنة لم تستطع قوة الاحتلال الغاشمة من وقف نمو الظاهرة الفلسطينية في وطنها ومن الجنون أن يفكر الإسرائيليون بابتلاع الملايين المتوالدة على أرض الوطن وتقويض حقوقهم وأحلامهم.

نحن الآن في غمار فصلٍ جديد من فصول الصراع وسوف يتواصل بفصول أخرى إلى أن يتحقق حلٌ يرضى عنه الفلسطينيون وهذا لا ما لا يُرى في الأفق القريب.

 

 

 

Loading...